٣- عدم الاغترار بتقلبهم في الحياة الدنيا :
قال تعالى :﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (١٩٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٩٧) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (١٩٨) ﴾ آل عمران
لاَ تَنْظُرْ إلَى مَا أتْرِفَ فِيهِ هَؤُلاءِ الكُفَّارُ مِنَ النِّعْمَةِ وَالغَبْطَةِ وَالسُّرُورِ. وَلاَ تَعْجَبْ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي الأَسْفَارِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّكَسُّبِ ثُمَّ عَوْدَتِهُمْ سَالِمِينَ إلَى أَهْلِيهِمْ وَدِيَارِهِمْ.
فَإنَّهُ مَتَاعٌ قَلِيلٌ زَائِلٌ، يَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا، ثمَّ يَكُونُ مَصِيرُهُمْ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المُسْتَقَرُّ وَالمَهْدُ.
أمَّا المُتَّقُونَ فَلَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا، وَخِلاَلَ أَشْجَارِهَا، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا مُخَلَّدِينَ أَبَداً، مُنَزَّلِينَ فِيهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَمَا عِنْدَ اللهِ مِنْ جَزَاءٍ وَثَوَابٍ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ الذِينَ يَبرُّونَ وَالِدَيْهِمْ وَأَبْنَاءَهُمْ.
وتقلب الذين كفروا في البلاد، مظهر من مظاهر النعمة والوجدان، ومن مظاهر المكانة والسلطان، وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة. يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين ; وهم يعانون الشظف والحرمان، ويعانون الأذى والجهد، ويعانون المطاردة أو الجهاد.. وكلها مشقات وأهوال، بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون !.. ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة، وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء، والباطل وأهله في منجاة، بل في مسلاة ! ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم ; فيزيدهم ضلالا وبطرا ولجاجا في الشر والفساد.
هنا تأتي هذه اللمسة: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد. متاع قليل. ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد). متاع قليل.. ينتهي ويذهب.. أما المأوى الدائم الخالد، فهو جهنم.. وبئس المهاد !
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات. وخلود. وتكريم من الله: (جنات تجري من تحتها الأنهار).. (خالدين فيها).. (نزلا من عند الله).. (وما عند الله خير للأبرار)..
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة، وهذا النصيب في كفة، أن ما عند الله خير للأبرار. وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان. وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب !
إن الله - سبحانه - في موضع التربية، وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر، ولا يعدهم بقهر الأعداء، ولا يعدهم بالتمكين في الأرض، ولا يعدهم شيئا من الأشياء في هذه الحياة.. مما يعدهم به في مواضع أخرى، ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه.
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا. هو (ما عند الله). فهذا هو الأصل في هذه الدعوة. وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة: التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية، ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون، ويكلوا أمرها إليه، وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها !
هذه العقيدة: عطاء ووفاء وأداء.. فقط. وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض، وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء.. ثم انتظار كل شيء هناك !
ثم يقع النصر، ويقع التمكين، ويقع الاستعلاء.. ولكن هذا ليس داخلا في البيعة. ليس جزءا من الصفقة. ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا. وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء.. والابتلاء..
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ; وعلى هذا كان البيع والشراء. ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ; ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية، إلا حين تجردوا هذا التجرد، ووفوا هذا الوفاء:
قال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله ﷺ يعني ليلة العقبة [ ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه ﷺ على الهجرة إليهم ]: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ". قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال:" الجنة ".. قالوا: ربح البيع. ولا نقيل ولا نستقيل.. هكذا.. "الجنة ".. والجنة فقط ! لم يقل.. النصر والعز والوحدة. والقوة. والتمكين. والقيادة. والمال. والرخاء - مما منحهم الله وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة !
وهكذا.. ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل.. لقد أخذوها صفقة بين متبايعين ; أنهي أمرها، وأمضي عقدها. ولم تعد هناك مساومة حولها !
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض، وزمام القيادة، وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها، وكل رغباتها، وكل شهواتها، حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها، والمنهج الذي تحققه، والعقيدة التي تموت من أجلها. فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه، أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة.
ــــــــــــ


الصفحة التالية
Icon