٢. سكرت أبصارهم :
قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ (١٠) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١١) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (١٥) ﴾ سورة الحجر
يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ عَنْ تَكْذِيبِ الكُفَّارِ لَهُ، وَيَقُولُ لَهُ : إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَرْسَلَ رُسُلاً إِلَى الأُمَمِ الخَالِيَةِ التِي كَانَتْ تَكْفُرُ بِرَبِّهَا، وَتُكْذِّبُ رُسُلَهُ، وَقَدْ أًَهْلَكَهُمُ اللهُ، لأَنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ رَبِّهِمْ.
وَلَمْ يَأْتِ أُمَّةً رَسُولٌ إِلاَّ اسْتَهْزَؤُوا بِهِ وَكَذَّبُوهُ، لأنَّ حَمْلَ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ، مُسْتَثْقَلٌ عَلَى النُّفُوسِ، كَمَا أَنَّ حَمْلَ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ مَا أَلِفُوهُ مِنَ المُعْتَقَدَاتِ هُوَ ثَقيلٌ أَيْضاً.
وَكَذَلِكَ يُلْقِي اللهُ تَعَالَى القُرْآنَ فِي قُلُوبِ المُجْرِمِينَ، وَيَسْلُكُهُ فِيها مُكَذَّباً بِمَا فِيهِ، مُسْتَهْزَأً بِهِ غَيْرَ مَقْبُولٍ لَدَيْهِمْ لأنَّهُ لَيْسَ فِي نُفُوسُهُمْ اسْتِعْدَادٌ لِتَلَقِّي الحَقِّ، وَلاَ تُضِيءُ نُفُوسُهُمْ بِمَصَابِيحِ هِدَايَتِهِ الرَّبَّانِيَّةِ كَمَا فَعَلَ الذِينَ مِنَ قَبْلِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، فَلَكَ يَا مُحَمَّدُ أُسْوَةٌ بِمَنْ سَبَقَكَ مِنَ الرُّسُلِ.
وَقَوْمُكَ، يَا مُحَمَّدُ، لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَذا القُرْآنِ مَعَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِمَا فَعَلَهُ اللهُ بِمَنْ كَذَّبَ رُسُلَهُ مِنَ العَذَابِ وَالاسْتِئْصَالِ، وَكَيْفَ نَجَّى رُسُلَهُ وَالذِينَ آمَنُوا لَهُمْ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّةُ اللهِ، وَسَيَحِلُّ بِهؤُلاَءِ الذِينَ يُكَذِّبُونَكَ مَا حَلَّ بِالمُكَذِّبِينَ السَّابِقِينَ، وَنَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ حِينٍ.
إِنَّ هؤُلاَءِ الكَفَرَةَ المُعَانِدِينَ يَطْلُبُونَ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ لِيُؤْمِنُوا لَكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا، حَتَّى إِنَّنا لَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ فَظَلُّوا يَصْعَدُونَ فِي ذَلكَ البَابِ فَيَرَوْنَ مَنْ فِي السَّمَاءِ مِنَ المَلائِكَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ العَجَائِبِ لِمَا صَدَّقُوا بِذَلِكَ.
وَلَقَالُوا : لَقَدْ سُدَّتْ أَبْصَارُنا، وَحُبِسَتْ عَنِ النَّظَرِ، وَشُبِّهَ عَلَيْنَا ( سُكِّرَتْ أَبْصَارُنا )، وَسُحِرْنَا، فَمَا نَرَاهُ هُوَ تَخَيُّلٌ لاَ حَقِيقَةَ لَهُ، وَقَدْ سَحَرَنَا مُحَمَّدُ بِمَا يَظْهَرُ عَلى يَدَيْهِ مِنَ الآيَاتِ. فَإِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يَقْتَرِحُ عَلَيْكَ هَؤُلاَءِ الآيَاتِ؟
ولقد بذل أعداء هذا الدين - وفي مقدمتهم اليهود - رصيدهم من تجارب أربعة آلاف سنة أو تزيد في الكيد لدين الله. وقدروا على أشياء كثيرة.. قدروا على الدس في سنة رسول الله ﷺ وعلى تاريخ الأمة المسلمة. وقدروا على تزوير الأحداث ودس الأشخاص في جسم المجتمع المسلم ليؤدوا الأدوار التي يعجزون عن أدائها وهم سافرون. وقدروا على تحطيم الدول والمجتمعات والأنظمة والقوانين. وقدروا على تقديم عملائهم الخونة في صورة الأبطال الأمجاد ليقوموا لهم بأعمال الهدم والتدمير في أجسام المجتمعات الإسلامية على مدار القرون، وبخاصة في العصر الحديث..
ولكنهم لم يقدروا على شيء واحد - والظروف الظاهرية كلها مهيأة له -.. لم يقدروا على إحداث شيء فيهذا الكتاب المحفوظ، الذي لا حماية له من أهله المنتسبين إليه ; وهم بعد أن نبذوه وراء ظهورهم غثاء كغثاء السيل لا يدفع ولا يمنع ; فدل هذا مرة أخرى على ربانية هذا الكتاب، وشهدت هذه المعجزة الباهرة بأنه حقا تنزيل من عزيز حكيم.
لقد كان هذا الوعد على عهد رسول الله ﷺ مجرد وعد. أما هو اليوم - من وراء كل تلك الأحداث الضخام ; ومن وراء كل تلك القرون الطوال. فهو المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب، والتي لا يماري فيها إلا عنيد جهول: (إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون).. وصدق الله العظيم..
ويعزي الله سبحانه نبيه ﷺ فيخبره أنه ليس بدعا من الرسل الذين لقوا الاستهزاء والتكذيب، فهكذا المكذبون دائما في عنادهم الذميم:
ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين. وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون..
وعلى هذا النحو الذي تلقى به المكذبون أتباع الرسل ما جاءهم به رسلهم، يتلقى المكذبون المجرمون من أتباعك ما جئتهم به. وعلى هذا النحو نجري هذا التكذيب في قلوبهم التي لا تتدبر ولا تحسن الاستقبال، جزاء ما أعرضت وأجرمت في حق الرسل المختارين: (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين. لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين)..
نسلكه في قلوبهم مكذبا بما فيه مستهزأ به ; لأن هذه القلوب لا تحسن أن تتلقاه إلا على هذا النحو. سواء في هذا الجيل أم في الأجيال الخالية أم في الأجيال اللاحقة ; فالمكذبون أمة واحدة، من طينة واحدة: (وقد خلت سنة الأولين)..
وليس الذي ينقصهم هو توافر دلائل الإيمان، فهم معاندون ومكابرون، مهما تأتهم من آية بينة فهم في عنادهم ومكابرتهم سادرون.
وهنا يرسم السياق نموذجا باهرا للمكابرة المرذولة والعناد البغيض: (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا: إنما سكرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون)..
ويكفي تصورهم يصعدون في السماء من باب يفتح لهم فيها. يصعدون بأجسامهم، ويرون الباب المفتوح أمامهم، ويحسون حركة الصعود ويرون دلائلها.. ثم هم بعد ذلك يكابرون فيقولون: لا. لا. ليست هذه حقيقة. إنما أحد سكر أبصارنا وخدرها فهي لا ترى إنما تتخيل: (إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون).. سكر أبصارنا مسكر وسحرنا ساحر، فكل ما نراه وما نحسه وما نتحركه تهيؤات مسكر مسحور !
يكفي تصورهم على هذا النحو لتبدو المكابرة السمجة ويتجلى العناد المزري. ويتأكد أن لا جدوى من الجدل مع هؤلاء. ويثبت أن ليس الذي ينقصهم هو دلائل الإيمان. وليس الذي يمنعهم أن الملائكة لا تنزل. فصعودهم هم أشد دلالة وألصق بهم من نزول الملائكة. إنما هم قوم مكابرون. مكابرون بلا حياء وبلا تحرج وبلا مبالاة بالحق الواضح المكشوف !
إنه نموذج بشري للمكابرة والاستغلاق والانطماس يرسمه التعبير، مثيرا لشعور الاشمئزاز والتحقير..
وهذا النموذج ليس محليا ولا وقتيا، ولا هو وليد بيئة معينة في زمان معين.. إنه نموذج للإنسان حين تفسد فطرته، وتستغلق بصيرته، وتتعطل في كيانه أجهزة الاستقبال والتلقي، وينقطع عن الوجود الحي من حوله، وعن إيقاعاته وإيحاءاته.
هذا النموذج يتمثل في هذا الزمان في الملحدين وأصحاب المذاهب المادية التي يسمونها "المذاهب العلمية ! " وهي أبعد ما تكون عن العلم ; بل أبعد ما تكون عن الإلهام والبصيرة..
إن أصحاب المذاهب المادية يلحدون في الله ; ويجادلون في وجوده - سبحانه - وينكرون هذا الوجود.. ثم يقيمون على أساس إنكار وجود الله، والزعم بأن هذا الكون موجود هكذا بذاته، بلا خالق، وبلا مدبر، وبلا موجه.. يقيمون على أساس هذا الزعم وذلك الإنكار مذاهب اجتماعية وسياسية واقتصادية و "أخلاقية ! " كذلك. ويزعمون أن هذه المذاهب القائمة على ذلك الأساس، والتي لا تنفصل عنه بحال.. "علمية ".. هي وحدها "العلمية " !
وعدم الشعور بوجود الله سبحانه، مع وجود تلك الشواهد والدلائل الكونية، هو دلالة لا تنكر على تعطل أجهزة الاستقبال والتلقي في تلك الجبلات النكدة. كما أن اللجاجة في هذا الإنكار لا تقل تبجحا عن تبجح ذلك النموذج الذي ترسمه النصوص القرآنية السابقة:
(ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون. لقالوا: إنما سكرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون !)..
فالشواهد الكونية أظهر وأوضح من عروجهم إلى السماء. وهي تخاطب كل فطرة غير معطلة خطابا هامسا وجاهرا، باطنا وظاهرا، بما لا تملك هذه الفطرة معه إلا المعرفة والإقرار.
إن القول بأن هذا الكون موجود بذاته ; وفيه كل تلك النواميس المتوافقة لحفظه وتحريكه وتدبيره ; كما أن فيه كل تلك الموافقات لنشأة الحياة في بعض أجزائه.. وهي موافقات لا تحصى.. إن هذا القول بذاته يرفضه العقل البشري، كما ترفضه الفطرة من أعماقها. وكلما توغل "العلم" في المعرفة بطبيعة هذا الكون وأسراره وموافقاته ; رفض فكرة التلقائية في وجود هذا الكون وفي حركته بعد وجوده ; واضطر اضطرارا إلى رؤية اليد الخالقة المدبرة من ورائه.. هذه الرؤية التي تتم للفطرة السوية بمجرد تلقي إيقاعات هذا الكون وإيحاءاته. قبل جميع البحوث العلمية التي لم تجيء إلا أخيرا !
إن الكون لا يملك أن يخلق ذاته، ثم يخلق في الوقت نفسه قوانينه التي تصرف وجوده. كما أن نشأة الحياة لا يفسرها وجود الكون الخالي من الحياة. وتفسير نشأة الكون ونشأة الحياة بدون وجود خالق مدبر تفسير متعسف ترفضه الفطرة كما يرفضه العقل أيضا.. كما أخذ يرفضه العلم المادي نفسه أخيرا:
يقول عالم الأحياء والنبات "رسل تشارلز إرنست" الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا:"لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات ; فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين، أو من الفيروس، أو من تجمع بعض الجزيئات البروتينية الكبيرة. وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات. ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين. ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية. وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة، فهذا شأنه وحده ! ولكنه إذ يفعل ذلك، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله، الذي خلق الأشياء ودبرها.
"إنني اعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها. وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق. ولذلك فإنني أومن بوجود الله إيمانا راسخا"
وهذا الذي يكتب هذا التقرير لم يبدأ بحثه من التقريرات الدينية عن نشأة الحياة. إنما بدأ بحثه من النظر الموضوعي لنواميس الحياة. والمنطق السائد في بحثه هو منطق "العلم الحديث" - بكل خصائصه - لا منطق الإلهام الفطري، ولا منطق الحس الديني. ومع ذلك فقد ا