٥. أن يكونوا من عباد الرحمن :
قال تعالى :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (٦٥) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٦٦) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (٦٧) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (٦٩) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (٧٠) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (٧١) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْو مَرُّوا كِرَامًا (٧٢) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (٧٤) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (٧٥) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٧٦) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (٧٧) ﴾ سورة الفرقان
يَصِفُ اللهُ تَعالى عِبَادَهُ المؤمنينَ المُتَقَّينَ بأَنهُمْ مُتواضِعُون، يَسيروُن على الأرضِ بسَكِينةٍ ووَقَارٍ ورِفْقٍ ( هَوْناً ) مِنْ غير تَجَبُّرٍ ولا اسْتِكْبارٍ، وإذات سَفِه عليهِمُ الجاهلونَ بالقَولِ لم يُقابِلُوهم عليهِ إلا حِلْماً وقَوْلاً مَعْروفاً، ويَرُدُّونَ عليهم قائلينَ : سلامٌ عليكمٌ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلينَ. وهُمْ يَبيتُونَ قِيَاماً في طَاعَةِ اللهِ تَعالى وعبادَتِهِ ويذكُرونَه ذِكْراً كَثيراً في رُكُوعِهِمْ وسُجُودِهمْ.
( وقالَ تَعالى في صِفَةِ عِبَادِ الرَّحمنِ في سُورةٍ أُخْرى :﴿ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. ﴾ يَبيتُونَ - أَيْ يُدْرِكُهُمْ الليلُ.
وهُمُ الذين يَغْلِبُ عليهِم الخَوفُ منَ اللهِ فيدْعُونهُ، ويسأَلُونَهُ أَنْ يَصرِفَ عنهمْ عَذابَ جَهَّنمَ، فإنَّ عذَابَها مؤلمٌ ملازمٌ للإِنسَانِ، لا يَزولُ عنهُ، ولا يَحُولُ، ولا يُفارِقُهُ.
وإنَّ جَهَنَّمَ بئسَ المنزلُ، وَبئْسَ المَقِيلُ والمقَامُ.
ومِنْ صِفاتِ عِبادِ الرَّحمنِ أَيضاً الاعتدَالُ في الإِنفَاقِ على أَنْفُسِهِمْ، وأَهليهمْ، فهُمْ لَيْسُوا بِمُبَذِّرينَ في إنفاقِهِمْ فيَصْرِفُون فوقَ الحَاجَةِ، ولا بُخَلاءَ على أهليهِمْ فَيُقَصِّرُون في حقِّهِمْ، فلا يَكْفُونَهُمْ، بلْ همْ مُعْتَدِلُونَ في أمورِهِمْ.
وهمْ مُخْلِصُون في عِبادَتِهِم للهِ تَعالى وحدَهُ، لا يُشْرِكُون بهِ شَيئاً، ولا يَدْعُونَ معهُ أحَداً، ولا يَعْبُدُونَ سِوَاهُ ولا يقْتُلُونَ النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللهُ قَتْلَها إِلا بِحَقِّها، وَفْقاً لما شَرَعَهُ اللهُ تَعالى، ولا يَرْتَكِبُون الزِّنى، ولا يَأْتُونَ ما حَرَّمَ اللهُ من الفُروجِ. ومَنْ يَرْتَكِبْ هَذِهِ الكبائرَ فإِنَّهُ يَلْقَى عَذاباً ألِيماً يومَ القيامةِ، جَزَاءً لَهُ على ما ارْتَكَبَ.
وَيُزَادُ في عذابهِ يومَ القيامةِ، ويُغْلَظُ لهُ فيهِ، وَيخْلُدُ في جهنمَ مُهَاناً ذَلِيلاً حَقِيراً، جَزَاءً لهُ على ما ارْتَكَبَ من الأعمالِ المُنْكَرَةِ.
إلا مَنْ تَابَ في الدُّنْيا، وأخْلَصَ التوبةَ وهو مُؤْمنٌ، وقدْ عَمِلَ الصالحاتِ، ورجَعَ إلى رَبِّهِ مُسْتَغْفِراً مُنِيباً، فإنَّ اللهَ تَعالى يتوبُ عليه، ويُحْسِنُ عاقِبَتَهُ، ( وفي ذلك دَلالةٌ على صِحَّةِ توبةِ القَاتل )، وهؤلاءِ هُمُ المُؤمنون، كانُوا قبلَ إيْمَانِهِمْ يَعْمَلُونَ السَّيّئاتِ، فَحَوَّلَهُمُ اللهُ تَعالى إلى الحَسَناتِ، وأبْدَلَهُمْ مَكَانَ السَّيئاتِ الحَسَنَاتِ، واللهُ غفورٌ لذُنُوبِ عِبادِه، رَحيمٌ بِهمْ.
ويَعِدُ اللهُ التَّائِبينَ إليهِ وَعْدَاً جَميلاً، فيقولُ تَعالى : إنَّهُ مَنْ تَاب عَنِ المَعَاصي التي عَمِلَها ونَدِمَ على ما فَرَطَ منهُ، وأكْمَلَ نفسَهُ بصَالِحِ الأعْْمَالِ، فإِنَّهُ يتوبُ إلى اللهِ تَوبةً نَصُوحاً مَقْبُولَة لَدَيْهِ، ماحِيةً للعِقَابِ، مُحَصِّلَةً لِجَزِيلِ الثوابِ.
ومنْ صفاتِ عبادِ الرحمنِ أنهمْ لا يَشْهَدونَ الزُّورَ، ولا يَحْضرُونَ مَجَالِسَ الفِسْق واللَّغْوِ والبَاطِلِ، ومَجَالِسَ السُّوءِ، وإذا مَرُّوا بمَنْ يَلْغُونَ ويَهْذُرُونَ ويَفْسُقُونَ لم يتوقَّفوا عليهِمْ واسْتَمَرُّوا في سيْرِهِمْ مُسْرِعِين.
ومنْ صِفاتِ المؤمنينَ أنهمْ إذا ذَكَرُوا اللهَ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وإذا تُلِيَتْ عليهِمْ آياتَهُ زادَتْهُم إيماناً ويَقِيناً بِصِدْقِ ما جاءَتْهُمْ بِهِ النُّبُّواتُ، ولم يكُونُوا كالكُفَّارِ الذين لا يَتَأَثَّرُون بما يَسْمعُون ويُبْصِرُونَ من آياتِ اللهِ ومُعْجِزَاتِه، ويَسْتَمِرُّونَ وكأنهمْ صُمٌّ لا يَسْمعونَ، وعُمْيٌ لا يُبْصِرونَ.
ومن صِفَاتِ المُؤمنينَ أَيضاً أنهمْ يَسْألُونَ اللهَ تَعالى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أصْلاَبِهمْ وذُرِّياتهمْ مَنْ يُطيعُ الله ويعبُدُهُ وحْدَه لا شريكَ له، لِتَقَرَّ بِهِ أعيُنُهُمْ في الدنيا والآخرةِ، وأنْ يجعلَ لهمْ مِنْ أزواجِهِمْ منْ يطيعُ الله تعالى، ويَهْتَدي بِهُدَاه، ويسألونَ ربَّهُمْ أن يجْعَلَهم أَئِمَّةً يُقْتَدى بِهم في الخَيرِ.
وهؤُلاءِ المؤمِنُونَ المُتَّصِفُون بالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ، يُجْزَوْنَ، يومَ القِيامةِ، بالدَّرَجاتِ العَالية، والمنَازِلِ الرَّفيعةِ، في الجَنَّةِ، لصَبْرِهِمْ على القِيَامِ بِمَا أَمَرَ اللهُ، وتَتلقاهُمُ المَلائِكَةُ في الجَنَّةِ بالتَّحِيةِ والسَّلامِ، فلهُمُ السَّلامُ، وعليهمُ السَّلامُ.
ويَبْقَوْنَ في الجَنَّةِ خَالدينَ في مُقَامِهِمْ، لا يَحُولُونَ عَنها ولا يَزولُونَ ولا يَرْتَحِلُونَ، ونِعْمَتِ الجَنَّةُ مُسْتَقراً ومُقاماً.
(وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاما)..
ها هي ذي السمة الأولى من سمات عباد الرحمن: أنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة، ليس فيها تكلف ولا تصنع، وليس فيها خيلاء ولا تنفج، ولا تصعير خذ ولا تخلع أو ترهل. فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية، وعما يستكن فيها من مشاعر. والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة، تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة. فيها وقار وسكينة، وفيها جد وقوة. وليس معنى: (يمشون على الأرض هونا) أنهم يمشون متماوتين منكسي الرؤوس، متداعي الأركان، متهاوي البنيان ; كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح ! وهذا رسول الله ﷺ كان إذا مشى تكفأ تكفيا، وكان أسرع الناس مشية، وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله ﷺ كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله ﷺ كأنما الأرض تطوي له - وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث. وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان رسول الله ﷺ إذا مشى تكفأ تكفيا كأنما ينحط من صبب. وقال مرة إذا تقلع - قلت والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة.
وهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة، لا يتلفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك، ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاما) لا عن ضعف ولكن عن ترفع ; ولا عن عجز إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع.
هذا نهارهم مع الناس فأما ليلهم فهو التقوى ومراقبة الله، والشعور بجلاله، والخوف من عذابه
(والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما. والذين يقولون: ربنا اصرف عنا عذاب جهنم. إن عذابها كان غراما. إنها ساءت مستقرا ومقاما)..
والتعبير يبرز من الصلاة السجود والقيام لتصوير حركة عباد الرحمن، في جنح الليل والناس نيام. فهؤلاء قوم يبيتون لربهم سجدا وقياما، يتوجهون لربهم وحده، ويقومون له وحده، ويسجدون له وحده. هؤلاء قوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ، بما هو أروح منه وأمتع، مشغولون بالتوجه إلى ربهم، وتعليق أرواحهم وجوارحهم به، ينام الناس وهم قائمون ساجدون ; ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن، ذي الجلال والإكرام.
وهم في قيامهم وسجودهم وتطلعهم وتعلقهم تمتلئ قلوبهم بالتقوى، والخوف من عذاب جهنم. يقولون: (ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما. إنها ساءت مستقرا ومقاما).. وما رأوا جهنم، ولكنهم آمنوا بوجودها، وتمثلوا صورتها مما جاءهم في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله الكريم. فهذا الخوف النبيل إنما هو ثمرة الإيمان العميق، وثمرة التصديق.
وهم يتوجهون إلى ربهم في ضراعة وخشوع ليصرف عنهم عذاب جهنم. لا يطمئنهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما ; فهم لما يخالج قلوبهم من التقوى يستقلون عملهم وعبادتهم، ولا يرون فيها ضمانا ولا أمانا من النار، إن لم يتداركهم فضل الله وسماحته وعفوه ورحمته، فيصرف عنهم عذاب جهنم.
والتعبير يوحي كأنما جهنم متعرضة لكل أحد، متصدية لكل بشر، فاتحة فاها، تهم أن تلتهم، باسطة أيديها تهم أن تقبض على القريب والبعيد ! وعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما، يخافونها ويخشونها، ويتضرعون إلى ربهم أن يصرف عنهم عذابها، وأن ينجيهم من تعرضها وتصديها !
ويرتعش تعبيرهم وهم يتضرعون إلى ربهم خوفا وفزعا: (إن عذابها كان غراما) : أي ملازما لا يتحول عن صاحبه ولا يفارقه ولا يقيله ; فهذا ما يجعله مروعا مخيفا شنيعا.. (إهنا ساءت مستقرا ومقاما) وهل أسوأ من جهنم مكانا يستقر فيه الإنسان ويقيم. وأين الاستقرار وهي النار ؟ وأين المقام وهو التقلب على اللظى ليل نهار !
وهم في حياتهم نموذج القصد والاعتدال والتوازن: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواما).. وهذه سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات ; ويتجه إليها في التربية والتشريع، يقيم بناءه كله عل


الصفحة التالية
Icon