٩. وجوب التعلق بالمنهج لا بالأشخاص :
قال تعالى :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (١٤٤) سورة آل عمران
لَمَّا انْهَزَمَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ أحُدٍ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، أُشِيعَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَدْ قُتِلَ، فَحَصَلَ ضَعْفٌ فِي صُفُوفِ المُسْلِمِينَ، وَتَأَخُّرٌ عَنِ القِتَالِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيةَ، وَفِيهَا يُذَكِّرُ المُسْلِمِينَ بِأَنَّ مُحَمَّداً بَشَرٌ قَدْ سَبَقَتُهُ رُسُلٌ، مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، ثُمَّ يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ، حِينَ سَمَاعِ إِشَاعَةِ قَتْلِ الرَّسُولِ، ضَعْفَهُ، فَقَالَ لَهُمْ : أَفَإِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ، أوْ قُتِلَ، تَرَاجَعْتُمْ وَنَكَصْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ؟ وَمَنْ يَتَرَاجَعُ وَيَنْكُصْ عَلَى عَقِبَيْهِ، فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيئاً، لأنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنِ العَالَمِينَ، أمّا الذِينَ امْتَثَلُوا لأمْرِ اللهِ، وَقَاتَلُوا عَنْ دِينِهِ، وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الشَّاكِرُونَ، وَسَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
إن محمدا ( ﷺ ) ليس إلا رسولا. سبقته الرسل. وقد مات الرسل. ومحمد ( ﷺ ) سيموت كما مات الرسل قبله.. هذه حقيقة أولية بسيطة. فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة ؟
إن محمدا رسول من عند الله، جاء ليبلغ كلمة الله. والله باق لا يموت، وكلمته باقية لا تموت.. وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل.. وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول. وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة !
إن البشر إلى فناء، والعقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ.. والمسلم الذي يحب رسول الله ﷺ وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيرا. الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة. وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك ! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحدا إثر واحد.. وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم، وبكل مشاعرهم، حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره ﷺ.. هذا المسلم الذي يحب محمدا ذلك الحب، مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد ﷺ والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده، باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت.
إن الدعوة أقدم من الداعية: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)..
قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن، العميقة في منابت التاريخ، المبتدئة مع البشرية، تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق.
وهي أكبر من الداعية، وأبقى من الداعية. فدعاتها يجيئون ويذهبون، وتبقى هي على الأجيال والقرون، ويبقى اتباعها موصولين بمصدرها الأول، الذي أرسل بها الرسل، وهو باق - سبحانه - يتوجه إليه المؤمنون.. وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه، ويرتد عن هدى الله. والله حي لا يموت: ومن ثم هذا الاستنكار، وهذا التهديد، وهذا البيان المنير:
(أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا. وسيجزي الله الشاكرين).. وفي التعبير تصوير حي للارتداد: (انقلبتم على أعقابكم).. (ومن ينقلب على عقبيه). فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة، كأنه منظر مشهود. والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة، ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف: إن محمدا قد قتل، فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين، وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين، وانتهى أمر الجهاد للمشركين ! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا، فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب، كارتدادهم في المعركة على الأعقاب ! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس - رضي الله عنه - فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم، وقالوا له: إن محمدا قد مات:" فما تصنعون بالحياة من بعده ؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ﷺ "
(ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا).. فإنما هو الخاسر، الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق.. وانقلابه لن يضر الله شيئا. فالله غني عن الناس وعن إيمانهم. ولكنه - رحمة منه بالعباد - شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم، ولخيرهم هم. وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله. وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق، وتعوج الأمور كلها، ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة، وتستقيم في ظله النفوس، وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها، والسلام مع الكون الذي تعيش فيه. (وسيجزي الله الشاكرين).. الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج، فيشكرونها باتباع المنهج، ويشكرونها بالثناء على الله، ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيبا على شكرهم، ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة، وهو أكبر وأبقى..
وكأنما أراد الله - سبحانه - بهذه الحادثة، وبهذه الآية، أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي ﷺ وهو حي بينهم. وأن يصلهم مباشرة بالنبع. النبع الذي لم يفجره محمد ﷺ ولكن جاء فقط ليومىء إليه، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق، كما أومأ إليه من قبله من الرسل، ودعوا القافلة إلى الارتواء منه !
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يأخذ بأيديهم، فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى. العروة التي لم يعقدها محمد ﷺ إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون !
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة، وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة، وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط. حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة، التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول ﷺ أو يقتل، فهم إنما بايعوا الله. وهم أمام الله مسؤولون !
وكأنما كان الله - سبحانه - يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى - حين تقع - وهو - سبحانه - يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم. فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب، وأن يصلهم به هو، وبدعوته الباقية، قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول.
ولقد أصيبوا - حين وقعت بالفعل - بالدهش والذهول. حتى لقد وقف عمر - رضي الله عنه - شاهرا سيفه، يهدد به من يقول: إن محمدا قد مات !
ولم يثبت إلا أبو بكر، الموصول القلب بصاحبه، وبقدر الله فيه، الاتصال المباشر الوثيق. وكانت هذه الآية - حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين - هي النداء الإلهي المسموع، فإذا هم يثوبون ويرجعون !
- - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
؟... تعريف العمى... ٤
الباب الأول... ٦
صفات العميان... ٦
١.... لا يتذكرون :... ٦
٢.... سكرت أبصارهم :... ٨
٣.... لا يسمعون ولا يرون :... ١٤
٤.... العمى والصمم :... ١٧
٥.... الإفساد في الأرض وتقطيع الأرحام :... ١٩
٦.... الاستكبار في الأرض واستحباب العمى على الهدى :... ٢٠
٧.... عدم اهتدائهم بالقرآن :... ٢٤
٨.... مقلدون لمن سبقهم تقليدا أعمى :... ٣٠
٩.... أضل من الأنعام :... ٣٦
١٠.... اتباع الهوى :... ٤٠
١١.... قصر النظر :... ٤٣
١٢.... لا يرجعون إلى الحق:... ٤٧
١٣.... لا يعقلون :... ٤٩
١٤.... العمى هو عمى القلوب لا الأبصار... ٥٠
١٥.... اتباع الشهوات :... ٥٢
١٦.... لا يؤمنون بالآخرة :... ٥٤
١٧.... التعلق بالحياة الدنيا :... ٥٩
١٨.... لا يؤمنون إلا بالخوارق :... ٦١
قصة السحرة :... ٦١
وكذلك في قصة أصحاب الأخدود :... ٦٥
١٩.... السخرية من المؤمنين اتهامهم بالأكاذيب :... ٦٧
٢٠.... البطش بالمؤمنين :... ٧٢
الباب الثاني... ٧٤
نتائج العمى... ٧٤
١-عدم الاهتداء للحق :... ٧٤
٢-عدم الاستواء بين الأعمى والبصير:... ٧٨
٣- عدم الاغترار بتقلبهم في الحياة الدنيا :... ٨٩
٤- الهلاك في الدارين والخسارة :... ٩٢
٥- عذاب النار :... ٩٧
٦-حشرهم عميان :... ٩٩
٧-من كان في الدنيا أعمى عن طريق الحق فهو يوم القيامة أعمى وأضلُّ سبيلا:... ١٠٢
الباب الثالث... ١٠٣
؟... علاج العمى... ١٠٣
١.... عدم قبول أي كلام بلا دليل ولا برهان :... ١٠٣
٢.... وجوب التفكر والتدبر في خلق السموات والأرض :... ١١٠
٣.... تحريم التقليد الأعمى :... ١٢٦
٤.... أن يكونوا من أولي الألباب :... ١٣١
٥.... أن يكونوا من عباد الرحمن :... ١٣٦
٦.... وجوب الإتباع على بصيرة :... ١٤٤
٧.... وجوب الإتباع بإحسان :... ١٤٧
٨.... وجوب الاتباع على هدى :... ١٥٢
٩.... وجوب التعلق بالمنهج لا بالأشخاص :... ١٥٧
الفهرس العام... ١٦٠


Icon