٧. عدم اهتدائهم بالقرآن :
قال تعالى :﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (٤٤)﴾ فصلت
يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى المُشْرِكِينَ العَرَبَ بِمَا أَنْعَمَهُ عَلَيْهِمْ إِذْ أَنّزَلَ عَلَيْهِمْ القُرْآنَ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ لِيَفْهَمُوهُ، وَيَتَدَبَّرُوا أَحْكَامَهُ. ثُمَّ يُشِيرُ تَعَالَى إِلَى طَريقَتِهِمْ فِي العِنَادِ، وَالمُكَابَرَةِ، وَيَسْتَنْكِرُها عَلَيْهِمْ فَيَقُولُ تَعَالَى : إِنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمِ القُرْآنَ بِلُغَةٍ أَعْجَمِيَّةٍ لاَعْتَرَضُوا عَلَيْهِ، وَلَقَالُوا : لَوْلاَ جَاءَ عَرَبيّاً فَصِيحاً مُفَصّلاً دَقِيقاً.
وَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ بَعْضَهُ عَرَبِياًً وَبَعْضَهُ أَعْجَمِيّاً لاَعْتَرَضُوا كَذَلِكَ وَلَقَالُوا : أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟؟
وَحِينَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ القُرْآنُ عَرَبِياً مُبِيناً قَالُوا : لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ والغَوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ. فَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ إِلاَّ الجَدَلَ والمُكَابَرَةَ وَالمُعَانَدَةَ، وَهَذَا القُرْآنُ هُوَ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ يَهْتَدُونَ بِأَحْكَامِهِ وَبِمَا جَاءَ فِيهِ، وَهُوَ شِفَاءٌ لِنُفُوسِهِمْ. أَمَّا الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ فَقُلُوبُهُمْ مَطْمُوسَةٌ لاَ تَفْقَهُ، وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَصَمَمٌ، فَلاَ تَسْمَعُ، وَفِي قُلُوبِهِمْ عَمًى فَلاَ تَتَبَيَّنُ مِنْهُ شَيئاً. فَكَأَنَّ حَالَهُمْ حَالُ مَنْ يُنَادِيهِ أَحدٌ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْهَمَ مِنْهُ مَا يَقُولُهُ لَهُ. ( أَوْ أَنَّ هَذَا القُرْآنَ بَعِيدٌ جِداً مِنْ قُلُوبِهِمْ ).
فهم لا يصغون إليه عربياً، وهم يخافون منه لأنه عربي يخاطب فطرة العرب بلسانهم. فيقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون. ولو جعله الله قرآنا أعجمياً لاعترضوا عليه أيضاً، وقالوا لولا جاء عربياً فصيحاً مفصلاً دقيقاً ! ولو جعل بعضه أعجمياً وبعضه عربياً لاعترضوا كذلك وقالوا أأعجمي وعربي ؟! فهو المراء والجدل والإلحاد.
والحقيقة التي تخلص من وراء هذا الجدل حول الشكل، هي أن هذا الكتاب هدى للمؤمنين وشفاء، فقلوب المؤمنين هي التي تدرك طبيعته وحقيقته، فتهتدي به وتشتفي. فأما الذين لا يؤمنون فقلوبهم مطموسة لا تخالطها بشاشة هذا الكتاب، فهو وقر في آذانهم، وعمى ً في قلوبهم. وهم لا يتبينون شيئاً. لأنهم بعيدون جداً عن طبيعة هذا الكتاب وهواتفه:
(قل: هو للذين آمنوا هدى وشفاء، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر، وهو عليهم عمى ً، أولئك ينادون من مكان بعيد)..
ويجد الإنسان مصداق هذا القول في كل زمان وفي كل بيئة. فناس يفعل هذا القرآن في نفوسهم فينشئها إنشاء، ويحييها إحياء ; ويصنع بها ومنها العظائم في ذاتها وفيما حولها. وناس يثقل هذا القرآن على آذانهم وعلى قلوبهم، ولا يزيدهم إلا صمماً وعمى. وما تغير القرآن. ولكن تغيرت القلوب. وصدق الله العظيم.
--------------------
وقال تعالى :﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ (٨٢) سورة النساء
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاءِ المُنَافِقِينَ بَأنْ يَتَدَّبُروا مَعَانِيَ القُرْآنِ، وَيَتَفَّهَمُوا مَا فِيهِ مِنْ إِحْكَامٍ وَبَلاَغَةٍ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ، لَعَلِمُوا أنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأنَّ مَا وَعَدَ بِهِ اللهُ المُتَّقِينَ الصَّادِقِينَ وَمَا أَنْذَرَ بِهِ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ، وَاقِعٌ لاَ مَحَالَةَ. وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّهُ لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ، وَلاَ اضْطِرَابَ، وَلاَ تَعَارُضَ، لأنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، وَلَوْ كَانَ مُنْزَلاً مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَمَا خَلاَ مِنِ اخْتِلافٍ وَتَعَارُضٍ، لأنَّهُ يَكُونُ مِنْ عَمَلِ المَخْلُوقَاتِ، وَعَمَلُ المَخْلُوقَاتِ لاَ يَخْلُو مِنَ الاخْتِلافِ وَالتَّنَاقُضِ
وهنا يعرض عليهم القرآن خطة، هي غاية ما يبلغه المنهج الرباني من تكريم الإنسان والعقل الإنساني، واحترام هذا الكائن البشري وإدراكه، الذي وهبه له الخالق المنان. يعرض عليهم الاحتكام في أمر القرآن إلى إدراكهم هم وتدبر عقولهم.. ويعين لهم منهج النظر الصحيح ; كما يعين لهم الظاهرة التي لا تخطى ء إذا اتبعها ذلك المنهج. وهي ظاهرة واضحة كل الوضوح في القرآن من جهة ; ويمكن للعقل البشري إدراكها من جهة أخرى.. ودلالتها على أنه من عند الله دلالة لا تمارى: أفلا يتدبرون القرآن ؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا..
وفي هذا العرض، وهذا التوجيه، منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيته - كما قلنا - كما أن فيه منتهى النصفة في الاحتكام إلى هذا الإدراك في ظاهرة لا يعييه إدراكها. وهي في الوقت ذاته ذات دلالة - كما أسلفنا - لا تمارى !
والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبدا.. ومستوياتها ومجالاتها، مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها. ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها - بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه - ما يملك إدراكه، في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى.
ومن ثم فإن كل أحد، وكل جيل، مخاطب بهذه الآية. ومستطيع - عند التدبر وفق منهج مستقيم - أن يدرك من هذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاختلاف، أو ظاهرة التناسق - ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه..
وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه، وتملك التحقق منه بإدراكها في حدودها الخاصة.
تتجلى هذه الظاهرة. ظاهرة عدم الاختلاف.. أو ظاهرة التناسق.. ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية.. ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح ; التوفيق والتعثر. القوة والضعف. التحليق والهبوط. الرفرفة والثقلة. الإشراق والانطفاء.. إلى آخر الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر. وأخصها سمة "التغير" والاختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال. يبدو ذلك في كلام البشر، واضحا عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد، أو المفكر الواحد، أو الفنان الواحد، أو السياسي الواحد، أو القائد العسكري الواحد.. أو أي كان في صناعته ; التي يبدو فيها الوسم البشري واضحا.. وهو: التغير، والاختلاف..
هذه الظاهرة واضح كل الوضوح أن عكسها وهو: الثبات، والتناسق، هو الظاهرة الملحوظة في القرآن - ونحن نتحدث فقط عن ناحية التعبير اللفظي والأداء الأسلوبي - فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز - تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها - ولكن يتحد مستواه وأفقه، والكمال في الأداء بلا تغير ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى.. كما هو الحال في كل ما يصنع الإنسان.. إنه يحمل طابع الصنعة الإلهية ; ويدل على الصانع. يدل على الموجود الذي لا يتغير من حال إلى حال، ولا تتوالى عليه الأحوال !.
وتتجلى ظاهرة عدم الاختلاف.. والتناسق المطلق الشامل الكامل.. بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحملهالعبارات. ويؤديه الأداء.. منهج التربية للنفس البشرية والمجتمعات البشرية - ومحتويات هذا المنهج وجوانبه الكثيرة - ومنهج التنظيم للنشاط الإنساني للأفراد وللمجتمع الذي يضم الأفراد - وشتى الجوانب والملابسات التي تطرأ في حياة المجتمعات البشرية على توالي الأجيال - ومنهج التقويم للإدراك البشري ذاته وتناول شتى قواه وطاقاته وإعمالها معا في عملية الإدراك ! - ومنهج التنسيق بين الكائن الإنساني بجملته - في جميع مجتمعاته وأجياله ومستوياته - وبين هذا الكون الذي يعيش فيه ; ثم بين دنياه وآخرته ; وما يشتجر في العلاقة بينهما من ملابسات لا تحصى في عالم كل فرد ; وفي عالم "الإنسان" وهو يعيش في هذا الكون بشكل عام..
وإذا كان الفارق بين صنعة الله وصنعة الإنسان واضحا كل الوضوح في جانب التعبير اللفظي والأداء الفني، فإنه أوضح من ذلك في جانب التفكير والتنظيم والتشريع. فما من نظرية بشرية، وما من مذهب بشري، إلا وهو يحمل الطابع البشري.. جزئية النظر والرؤية.. والتأثر الوقتي بالمشكلات الوقتية.. وعدم رؤية المتناقضات في النظرية أو المذهب أو الخطة ; التي تؤدي إلى الاصطدام بين مكوناتها - إن عاجلا وإن آجلا - كما تؤدي إلى إيذاء بعض الخصائص في الشخصية البشرية الواحدة التي لم يحسب حساب بعضها ; أو في مجموعة الشخصيات الذين لم يحسب حساب كل واحدة منها.. إلى عشرات ومئات من النقائص والاختلاف، الناشئة من طبيعة الإدراك البشري المحدود، ومن الجهل البشري بما وراء اللحظة الحاضرة، فوق جهله بكل مكونات اللحظة الحاضرة - في أية لحظة حاضرة ! - وعكس ذلك كله هو ما يتسم به المنهج القرآني الشامل المتكامل، الثابت الأصول ; ثبات النواميس الكونية ; الذي يسمح بالحركة الدائمة - مع ثباته - كما تسمح بها النواميس الكونية !
وتدبر هذه الظاهرة، في آفاقها هذه، قد لا يتسنى لكل إدراك، ولا يتسنى لكل جيل. بل المؤكد أن كل إدراك سيتفاوت مع الآخر في إدراكها ; وكل جيل سيأخذ بنصيبه في إدراكها ويدع آفاقا منها للأجيال المترقية، في جانب من جوانب المعرفة أو التجربة.. إلا أنه يتبقى من وراء كل الاختلاف البشري الكثير في إدراك هذه الظاهره - كاختلافه الكثير في كل شيء آخر ! - بقية يلتقي عليها كل إدراك، ويلتقي عليها كل جيل.. وهي أن هذه الصنعة شيء وصنعة البشر شيء آخر. وأنه لا اختلاف في هذه الصنعة ولا تفاوت، وإنما وحدة وتناسق.. ثم يختلف الناس بعد ذلك ما يختلفون في إدراك آماد وآفاق وأبعاد وأنواع ذلك التناسق !.
وإلى هذا القدر الذي لا يخطئه متدبر - حين يتدبر - يكل الله تلك الطائفة، كما يكل كل أحد، وكل جماعة، وكل جيل. وإلى هذا القدر من الإدراك المشترك يكل إليهم الحكم على هذا القرآن ; وبناء اعتقادهم في أنه من عند الله. ولا يمكن أن يكون من عند غير الله.
ويحسن أن نقف هنا وقفة قصيرة، لتحديد مجال الإدراك البشري في هذا الأمر وفي أمر الدين كله. فلا يكون هذا التكريم الذي كرمه الله للإنسان بهذا التحكيم، سبيلا إلى الغرور، وتجاوز الحد المأمون ; والانطلاق من السياج الحافظ من المضي في التيه بلا دليل !
إن مثل هذه التوجيهات في القرآن الكريم يساء إدراكها، وإدراك مداها. فيذهب بها جماعة من المفكرين الإسلاميين - قديما وحديثا - إلى إعطاء الإدراك البشري سلطة الحكم النهائية في أمر الدين كله. ويجعلون منهندا لشرع الله. بل يجعلونه هو المسيطر على شرع الله !
الأمر ليس كذلك.. الأمر أن هذه الأداة العظيمة - أداة الإدراك البشري - هي بلا شك موضع التكريم من الله - ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى: حقيقة أن هذا الدين من عند الله. لأن هناك ظواهر يسهل إدراكها ; وهي كافية بذاتها للدلالة - دلالة هذا الإدراك البشري ذاته - على أن


الصفحة التالية
Icon