( وما هو على الغيب بضنين ) سورة التكوير.
وتأمل آية الأنفال المذكورة، تجد فيها ظاهرة عجيبة، فإنها لم تنزل إلا بعد إطلاق أساري بدر وقبول الفداء منهم، وقد بدئت بالتخطئة والاستنكار لهذه الفعلة، ثم لم تلبث أن ختمت بإقرارها وتطبيب النفوس بعدها. فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام - لو كان عن النفس مصدره - يمكن أن يصدر عنها آخره ولما تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب والندم وبين ابتسامة الرضا والاستحسان ؟ كلا، وان هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين لكان الثاني منهما إضرابا عن الأول ماحيا له، ولرجع آخر الفكر وفقا لما جرى به العمل. فأي داع دعا إلى تصوير ذلك الخاطر الممحو وتسجيله، على ما فيه من تقريع علني بغير حق، وتنغيص لهذه الطعمة التي يراد جعلها حلالا طيبة ؟ إن الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص أن ها هنا ألبتة شخصيتين منفصلتين، وأن هذا صوت سيد يقول لعبده : لقد أسأت ولكني غفوت عنك وأذنت لك.
وأنت لو نظرت في هذه الذنوب التي وقع فيها العتاب عليها لوجدتها تنحصر في شيء واحد، وهو انه عله السلام كان إذا ترجح بين ولم يجد فيهما إثما اختار أقربهما إلى رحمة أهله وهداية قومه وتأليف خصمه، وأبعدهما عن الغلظة والجفاء، وعن إثارة الشبه في دين الله. لم يكن بين يديه نص فخالفه كفاحا، أو جاوزه خطأ ونسيانا، بل كل ذنبه مجتهد بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيرا فتخير. هبه مجتهدا أخطا باختيار خلاف الأفضل. أليس معذورا ومأجورا على أن الذي اختاره كان


الصفحة التالية
Icon