فيحرك به لسانه وشفتيه طلبا لحفظه، و خشية ضياعه من صدره. ولم يكن ذلك معروفا من عادته في تحضير كلامه، لا قبل دعواه النبوة ولا بعدها، ولا كان ذلك من عادة العرب، انما كانوا يزورون كلامهم في أنفسهم. فلو كان القرآن منبجسا من معين نفسه لجرى على سنة كلامه وكلامهم. ولكان له من الروية والأناة الصامتة ما يكفل له حاجته من إنضاج الرأي وتمحيص الفكرة. ولكنه كان يرى نفسه امام تعليم يفاجئه وقتيا ويلم به سريعا. بحيث لا تجدي الروية شيئا في اجتلابه لو طلب، ولا في تداركه واستذكاره لو ضاع منه شيء وكان عليه ان
يعيد كل ما يلقى اليه حرفيا. فكان لابد له في أول عهده بتلك الحال الجديدة التي لم يألفها من نفسه ان يكون شديد الحرص على المتابعة الحرفية، حتى ضمن الله له حفظه و بيانه بقوله :( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) الآيات من سورة القيامة، وقوله ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل رب زدني علما ) سورة طه.
هذا طرف من سيرته بإزاء القرآن. وكلها شواهد ناطقة بصدقه في أن القرآن لم يصدر عنه بل ورد اليه، وانه لم يفض عن قلبه بل أفيض عليه.
فإذا أنت صعدت بنظرك الى سيرته العامة لقيت من جوانبها مجموعة رائعة من الاخلاق العظيمة. وحسبك الآن منها امثلة يسيرة اذا ما تأملتها صورت ل كانسانا الطهر ملء ثيابه، والجد حشو إهابه، يأبى لسانه ان يخوض فيما لا يعلمه، وتأبى عيناه تخفيا خلاف ما يعلنه، ويأبى سمعه ان يصغى الى غلو المادحين له : تواضع هو حلية العظماء، وصراحة نادرة في الزعماء، وتثبت قلما تجده عند العلماء، فأنى من مثله الختل أو التزوير، أو الغرور أو التغرير ؟ حاش لله.