وكذلك: (إِن تَكُ مِثقالَ حَبَةٍ مِن خَردَل) حذف النون لأن هذا المثقال " أصغر مقدارا " وأحقره في الإعتبار منه الإبتداء إلى القنطار. فإذا كان ذلك الذي لا خطر له عندنا يأتي به الله، فما ظنك بأكبر من ذلك، هو أولى أن يأتي به الله.
وكذلك: (أَوَ لَم تَكُ تَأتيكُم رُسُلُكُم بالبَينات) جاءتهم الرسل من أقرب شيء في البيان الذي هو أقل مبدأ فيه وأصغره وأضعفه وأحقره وهو الحسن إلى العقل إلى الذكر. ورقوهم من أخفض رتبة وأحقرها وهي الجهل إلى أرفع درجة في العلم والإدراك وهي اليقين.
وهذا على غير حال الحرف الذي في قوله تعالى: (أَلَم تَكُن آَياتي تُتلى عَلَيكُم) فإن كون تلاوة الآيات قد كمل كونه وتم.
كذلك: (ألم تكن أرض الله واسعة) هذا قد تم كونه.
كذلك (لَم يَكُنِ الَّذَينَ كَفَروا مِن أَهلِ الكِتاب) الآية.
هذا قد تم كونهم غير منفكين إلى تلك الغاية التي جعل الله لهم، وهي مجيء البينة.
وكذلك: (فَلَم يَكُ يَنفُعُهُم إِيمانُهم لَمّا رَأَوا بَأسَنا). انتفى عن إيمانهم مبدأ الإنتفاع وأقله فانتفى لأجل ذلك كله. فحذف اللامات في هذه الكلمة دليل على هذه البدايات وعدم النهايات. وظهر من ذلك أن هذه الحروف يختلف حالها في الخط بحسب اختلاف أحوال معاني كلماتها في العلم لا في اللفظ. وفيها التنبيه على العوالم ومراتب الوجود والمقامات.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
باب مد التاءات وقبضها
وهذا جاء في الإسم المفرد المضاف الذي فيه علامة التأنيث.
وذلك أن هذه الأسماء لما كانت يلازمها الفعل صارت تعتبر اعتبارين: أحدهما من حيث هي أسماء وصفات. فهذا تقبض فيه التاء.
والثاني من حيث يكون مقتضاها فعلا وأثرا ظاهرا في الوجود. فهذا تمد فيه التاء كما تمد في: قالت: وحقت. و " جهة " الفعل والأثر ملكية ظاهرة، وجهة الإسم والصفة ملكوتية باطنة.
فمن ذلك: (الرَحمَة) مدت في سبعة مواضع للعلة التي ذكرت. يدل عليه ما جاء في أحدها: (إنّ رَحمَتَ اللَهِ قَريبٌ مِنَ المُحسِنينَ).
فوصفها على التذكير فهو الفعل. وكذلك: (فانظُر إِلى آثارِ رَحمَتِ الله. والأثر هو بالفعل ضرورة.
ومن ذلك: (النعمة) مدت في أحد عشر موضعا. أحدها في سورة إبراهيم: (وَإِن تَعُدوا نِعمَتَ اللَهِ لا تُحصوها) الآية. فهذه بمعنى الحاصلة بالفعل في الوجود. يدلك عليه قوله تعالى: (إِنّ الإِنسانَ لَظَلومٌ كَفّار) فهذه نعمة متصلة بالظلوم " الكفار " في تنزلها وقال تعالى في سورة النحل: (وَإِن تَعُدوا نِعمَةَ اللهِ لا تُحصوها) وهذه قبضت تاؤها لأنها بمعنى الإسم. يدلك عليه قوله تعالى: (إِنّ اللَهَ لَغَفورٌ رَحيم) فهذه نعمة وصلت من الرب الغفور فهي ملكوتية ختمها باسمه عز وجل و ختم الأولى باسم الإنسان.
ومن ذلك: (الكلمة) قد مدت في موضعين.
أحدهما في الأعراف: (وَتَمَت كَلِمةُ رَبِكَ الحُسنى عَلى بَنَيهِ إِسرائيل) هو ما تم لهم في الوجود بالفعل الذي أظهره لهم في ملكه.
وفي هود: (وَتَمَت كَلِمَةُ رَبّكَ لأَملأَنّ جَهَنّمَ مِنَ الجِنّةِ وَالناسِ أَجمَعين)، " هو ما تم " لهم في الوجود الأخروي بالفعل الذي ظهر دليله في الملك، وهو الاختلاف وتمامها. وهو أن لها نهاية تظهر في الوجود بالفعل فمدت التاء.
ومن ذلك: (السنة) مدت في خمسة مواضع حيث تكون بمعنى الإهلاك والانتقام الذي ظهر في الوجود.
أحدها في الأنفال: (فَقَد مَضَت سُنّتُ الأَولين) يدل على أنها للإنتقام قوله تعالى قبلهاك (إِن يَنتَهَوا يُغفَر لَهُم ما قَد سَلَف) الآية. وبعدها: (وَقاتِلوهُم حَتى لا تَكونَ فِتنَة).
وفي فاطر: (فَهَل يَنظُرونَ إِلاّ سُنَتَ الأَولين فَلَن تَجِدَ لِسُنّتَ اللَهِ تَبديلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنّتِ اللَهِ تَحويلاً) يدلك على أنها كلها بمعنى الإنتقام قوله تعالى قبلها: (وَلا يَحيقُ المَكرُ السَيءُ إِلاّ بِأهلِهِ) وسياق ما بعدها.
وفي المؤمن (فَلَم يَكُ يَنفَعُهُم لِما رَأَوا بَأسَنا سُنّتَ اللَهِ التَي قَد خَلَت في عِبادِهِ).
فإذا كانت السنة بمعنى الشريعة والطريقة المتبعة فهي ملكوتية بمعنى الإسم تقبض تاؤها كما في الأحزاب: (سُنّةَ اللَهِ في الَّذَينَ خَلَوا مِن قَبل) فهذه بمعنى حكم الله و " شرعه " فيهم.