فصل
فإن قيل : ما منشأ هذا النزاع والاشتباه والتفرق والاختلاف ؟ قيل : منشؤه هو الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، وهو الكلام المشتبه المشتمل على حق وباطل، فيه ما يوافق العقل والسمع، وفيه ما يخالف العقل والسمع، فيأخذ هؤلاء جانب النفي المشتمل على نفي الحق والباطل، وهؤلاء جانب الإثبات المشتمل على إثبات حق وباطل، وجماعه هو الكلام المخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، فكل كلام خالف ذلك فهو باطل، ولا يخالف ذلك إلا كلام مخالف للعقل والسمع، وذلك أنه لما تناظروا في مسألة حدوث العالم وإثبات الصانع، استدلت الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف أهل الكلام على ذلك، بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.
ثم إن المستدلين بذلك على حدوث الأجسام، قالوا : إن الأجسام لا تخلو عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، ثم تنوعت طرقهم في المقدمة الأولى : فتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلوا عن الحركة والسكون وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن / الاجتماع والافتراق وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الأكوان الأربعة : الاجتماع والافتراق، والحركة والسكون، وهي حادثة. وهذه طرق المعتزلة ومن وافقهم على أن الأجسام لا تخلو عن بعض أنواع الأعراض.
وتارة يثبتونها بأن الجسم لا يخلو من كل جنس من الأعراض عن عرض منه، ويقولون : القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، ويقولون : إن الأعراض يمتنع بقاؤها؛ لأن العرض لا يبقى زمانين، وهذه الطريقة هي التي اختارها الآمدي، وزيف ما سواها، وذكر أن جمهور أصحابه اعتمدوا عليها، وقد وافقهم عليها طائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة، كالقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني، وأبي الوليد الباجي وأمثالهم.


الصفحة التالية
Icon