وهذا الكلام مجمل، فإنه إذا أريد به ما لا يخلو عن الحادث المعين أو ما لا يسبق الحادث المعين، فهو حق بلا ريب، ولا نزاع فيه، وكذلك إذا أريد بالحادث جملة ما له أول أو ما كان بعد العدم ونحو ذلك، وأما إذا أريد بالحوادث الأمور التي تكون شيئًا بعد شيء لا إلى أول. وقيل : إنه ما لا يخلو عنها وما لم يخل عنها فهو حادث لم يكن ذلك ظاهرًا ولا بينا، / بل هذا المقام حار فيه كثير من الأفهام، وكثر فيه النزاع والخصام؛ ولهذا صار المستدلون بقولهم : ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، يعلمون أن هذا الدليل لا يتم إلا إذا أثبتوا امتناع حوادث لا أول لها، فذكروا في ذلك طرقًا قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع.
وهذا الأصل تنازع الناس فيه على ثلاثة أقوال :
فقيل : ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وبامتناع حوادث لا أول لها مطلقًا، وهذا قول المعتزلة ومن اتبعهم من الكرامية والأشعرية، ومن دخل معهم من الفقهاء وغيرهم.
وقيل : بل يجوز دوام الحوادث مطلقا، وليس كل ما قارن حادثًا بعد حادث لا إلى أول يجب أن يكون حادثًا، بل يجوز أن يكون قديمًا، سواء كان واجبًا بنفسه أو بغيره، وربما عبر عنه بالعلة والمعلول، والفاعل والمفعول ونحو ذلك، وهذا قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم والأفلاك، كأرسطو وأتباعه مثل ثامسطيوس، والاسكندر الإفريدوسي وبرقلس، والفارابي، وابن سينا وأمثالهم.
وأما جمهور الفلاسفة المتقدمين على أرسطو، فلم يكونوا يقولون / بقدم الأفلاك. ثم الفلاسفة من هؤلاء وهؤلاء متنازعون في قيام الصفات والحوادث بواجب الوجود على قولين معروفين لهم، وإثبات ذلك قول كثير من الأساطين القدماء، وبعض المتأخرين، كأبي البركات صاحب المعتبر وغيره، كما بسطت أقوالهم في غير هذا الموضع.