وأما الإمام أحمد، فإنه أنكر إطلاق هذا القول، وما يفهم منه عند الإطلاق، وهو أن نفس حروف المعجم مخلوقة، كما نقل عنه أنه قال : ومن زعم أن حرفًا من حروف المعجم مخلوق، فهذا جهمي يسلك طريقًا إلى البدعة، فإنه إذا قال : إن ذلك مخلوق، فقد قال : إن القرآن مخلوق ـ أو كما قال. ولا ريب أن من جعل نوع الحروف مخلوقًا بائناً عن الله كائنًا بعد أن لم يكن، لزم عنده أن يكون كلام الله العربي والعبري ونحوهما مخلوقا، وامتنع أن يكون الله متكلمًا بكلامه، الذي أنزله على عبده محمد ﷺ، فلا يكون شيء من ذلك كلامه، فطريقة الإمام أحمد وغيره من السلف مطابقة للقول الثالث، الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول.
وقال الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي الشافعي. في كتابه الذي سماه :[ الفصول في الأصول ] : سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول : سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول : سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرائيني يقول : مذهبي ومذهب الشافعي / وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال : إنه مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل ـ عليه السلام ـ مسموعا من الله، والنبي ﷺ سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من رسول الله ﷺ، وهو الذي نتلوه نحن مقروء بألسنتنا، وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا مسموعا ومكتوبا، ومحفوظًا ومقروءًا، وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال : إنه مخلوق فهو كافر، عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين.
والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع، وذكر ما يتعلق بهذا الباب من الكلام في سائر الصفات، كالعلم والقدرة والإرادة، والسمع والبصر والكلام في تعدد الصفة واتحادها، وقدمها وحدوثها، أو قدم النوع دون الأعيان، أو إثبات صفة كلية عمومية متناولة الأعيان، مع تجدد كل معين من الأعيان، أو غير ذلك مما قيل في هذا الباب، فإن هذه مواضع مشكلة، وهي من محارات العقول؛ ولهذا اضطرب فيها طوائف من أذكياء الناس ونظارهم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.


الصفحة التالية
Icon