فلما رأى هذا الفريق الثاني ما أجاب به هؤلاء، قالوا : إنه حروف وأصوات، قديمة أزلية. فرد عليهم غيرهم. وقالوا : إن الأصوات متضادة في نفسها، والضدان لا يجتمعان، وأقل ما في الأمور القديمة أن تكون مجتمعة، وقالوا لهم : الأصوات مستلزمة للحركات المستلزمة للقدرة والإرادة، فلا تكون الأصوات إلا بقدرة وإرادة، وما كان كذلك لم يكن قديم العين، لكن النزاع في كونه قديم النوع. وقالوا : الأصوات هي في نفسها يمتنع بقاؤها، وما امتنع بقاؤه امتنع قدمه، فامتنع قدم الأصوات.
وقال آخرون : إذا كان الأمر كذلك كان متكلمًا بحروف، وأصوات، حادثة بمشيئته وقدرته، قائمة بذاته، لكن يمتنع قدم شيء من ذلك؛ لأن الحوادث لا تكون أزلية، ورأوا أن هذا القول ينجيهم من / سائر ما وقع فيه غيرهم، وليس فيه ما ينكر أولئك عليهم، إلا أن يقوم بذات الرب ما يتعلق بمشيئته وقدرته.
فإن المعتزلة نفت أن يقوم به شيء من المعاني، وعبروا عن ذلك بأنه لا يقوم به شيء من الأعراض والحوادث، فسموا ما يقوم به من العلم، والقدرة، والحياة، أعراضًا. وما يقوم به من الخلق، والإحسان والإتيان، والمجيء، والنزول حوادث. وقالوا ـ لسلف الأمة وأئمتها وجمهورها ـ : إن قلتم : الكلام المعين لازم له، فقد قلتم : إنه تقوم به الأعراض، وإن قلتم : يتكلم باختياره وقدرته، فقد قلتم : تقوم به الحوادث.
فقال هؤلاء : كلام المعتزلة وقولهم : لا تقوم به هذه الأمور، كلام باطل، مخالف للكتاب والسنة، ولإجماع سلف الأمة، وهو ـ أيضًا ـ مخالف لصريح العقل؛ فإن إثبات عالم بلا علم، وقادر بلا قدرة، وحي بلا حياة، ممتنع في صريح العقل، وكذلك إثبات خالق وعادل بلا خلق ولا عدل، وإثبات فاعل لا يقوم به فعل، وإثبات رب لا يقدر على التصرف بنفسه، بل يكون بمنزلة الجماد سلب لصفات الكمال عنه، كما أن إثبات رب لا يعلم ولا يقدر سلب لصفات الكمال عنه.