وهذه الجملة لا تحتمل البسط هنا، فقد بسطت في غير هذا الموضع، وبين أن [ الكلام المذموم ] الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل، المخالف لصحيح المنقول، وصريح المعقول؛ وأن ما ثبت بالأدلة القطعية لا يتعارض ولا يتناقض أصلا، فلا يتعارض دليلان يقينيان أصلا، سواء كانا عقليين / أو سمعيين، أو كان أحدهما عقليًا والآخر سمعيا، ومن ظن أنهما يتعارضان كان ذلك خطأ منه؛ لاعتقاده في أحدهما أنه يقينىٌّ، ولا يكون كذلك ولا سيما إذا كانا جميعًا غير يقينيين.
واختلاف الناس في هذا الباب وغيره كثير منه يكون [ اختلاف تنوع ] مثل أن يقصد هذا حقًا فيما يثبته، والآخر يقصد حقًا فيما نقضه، وكلاهما صادق. لكن يظنان أن بينهما نزاعًا معنويًا، ولا يكون الأمر كذلك، وكثير من النزاع يعود إلى إطلاقات لفظية، لا إلى معان عقلية، وأحسن الناس طريقة من كان إطلاقه موافقًا للإطلاقات الشرعية، والمعاني التي يقصدها معان صحيحة، تطابق الشرع والعقل....
وأصل منشأ نزاع المسلمين في هذا الباب : أن المتكلمين ـ من الجهمية، والمعتزلة، ومن اتبعهم ـ سلكوا في إثبات حدوث العالم، وإثبات الصانع طريقًا مبتدعة في الشرع، مضطربة في العقل، وأوجبوها، وزعموا أنه لا يمكن معرفة الصانع إلا بها، وتلك الطريق فيها مقدمات مجملة، لها نتائج مجملة، فغلط كثير من سالكيها في مقصود الشارع، ومقتضى العقل، فلم يفهموا ما جاءت به النصوص النبوية، ولم يحرروا ما اقتضته الدلائل العقلية، وذلك أنهم قالوا : لا يمكن معرفة / الصانع إلا بإثبات حدوث العالم، ولا يمكن إثبات حدوث العالم إلا بإثبات حدوث الأجسام.