فمن قال : إن المداد قديم فقد أخطأ، ومن قال : ليس في المصحف كلام الله وإنما فيه المداد الذي هو عبارة عن كلام الله فقد أخطأ، بل القرآن في المصحف كما أن سائر الكلام فى الورق، كما أن الأمة مجمعة عليه، وكما هو في فِطَر المسلمين، فإن كل مرتبة لها حكم يخصها، وليس وجود الكلام في الكتاب كوجود الصفة في الموصوف، مثل وجود العلم والحياة في محلهما. حتى يقال : إن صفة الله حلت بغيره، أو فارقته، ولا الوجود فيه كالدليل المحض، مثل وجود العالم الدال على الباري ـ تعالى ـ حتى يقال : ليس فيه إلا ما هو علامة على كلام الله ـ عز وجل ـ /بل هو قسم آخر، ومن لم يعط كل مرتبة مما يستعمل فيها أداة الظرف حقها فيفرق بين وجود الجسم في الحيز وفي المكان، ووجود العرض بالجسم، ووجود الصورة بالمرآة، ويفرق بين رؤية الشيء بالعين يقظة، وبين رؤيته بالقلب يقظة ومنامًا، ونحو ذلك. وإلا اضطربت عليه الأمور.
وكذلك سؤال السائل عما في المصحف، هل هو حادث أو قديم ؟ سؤال مجمل؛ فإن لفظ القديم أولا ليس مأثورًا عن السلف، وإنما الذي اتفقوا عليه أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو كلام الله حيث تلى، وحيث كتب، وهو قرآن واحد، وكلام واحد، وإن تنوعت الصور التي يتلى فيها ويكتب من أصوات العباد ومدادهم. فإن الكلام كلام من قاله مبتدئًا، لا كلام من بلغه مؤديًا، فإذا سمعنا محدثًا يحدث بقول النبي ﷺ :( إنما الأعمال بالنيات ) قلنا : هذا كلام رسول الله ﷺ لفظه ومعناه، مع علمنا أن الصوت صوت المبلغ، لا صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كل من بلغ كلام غيره من نَظْمٍ ونَثْرٍ.
ونحن إذا قلنا : هذا كلام الله لما نسمعه من القارئ، ونرى في المصحف، فالإشارة إلى الكلام من حيث هو هو، مع قطع النظر عما اقترن به البلاغ من صوت المبلغ، ومداد الكاتب.


الصفحة التالية
Icon