ولكن لما كان فيه شبهة الحلول تنازع الناس في إثبات لفظ الحلول ونفيه عنه، هل يقال : إن كلام الله حال في المصحف أو حال في الصدور ؟ وهل يقال : كلام الناس المكتوب حال في المصحف أو حال في قلوب حافظيه ونحو ذلك ؟ فمنهم طائفة نفت الحلول كالقاضي /أبي يعلى وأمثاله وقالوا : ظهر كلام الله في ذلك ولا نقول : حل؛ لأن حلول صفة الخالق في المخلوق، أو حلول القديم في المحدث ممتنع. وطائفة أطلقت القول بأن كلام الله حال في المصحف كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي ـ الملقب بشيخ الإسلام ـ وغيره، وقالوا : ليس هذا هو الحلول المحذور الذي نفيناه، بل نطلق القول بأن الكلام فى الصحيفة ولا يقال بأن الله في الصحيفة أو في صدر الإنسان، كذلك نطلق القول بأن كلامه حال في ذلك دون حلول ذاته، وطائفة ثالثة كأبي علي بن أبي موسى وغيره قالوا : لا نطلق الحلول نفيًا ولا إثباتًا لأن إثبات ذلك يوهم انتقال صفة الرب إلى المخلوقات ونفى ذلك يوهم نفي نزول القرآن إلى الخلق فنطلق ما أطلقته النصوص ونمسك عما في إطلاقه محذور لما في ذلك من الإجمال.
وأما قول القائل : إن قلتم : إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول، وإن قلتم غير ذلك، قلتم بمقالتنا، فجواب ذلك : أن المقالة المنكرة هنا تتضمن ثلاثة أمور، فإذا زالت لم يبق منكرًا :
أحدها : من يقول : إن القرآن العربي لم يتكلم الله به وإنما أحدثه غير الله كجبريل ومحمد، والله خلقه في غيره.
الثاني : قول من يقول : إن كلام الله ليس إلا معنى واحدًا هو /الأمر والنهي والخبر، وأن الكتب الإلهية تختلف باختلاف العبارات لا باختلاف المعاني فيجعل معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحدًا، وكذلك معنى آية الدَّيْن وآية الكرسي، كمن يقول : إن معاني أسماء الله الحسنى بمعنى واحد، فمعنى العليم والقدير والرحيم والحكيم معنى واحد، فهذا إلحاد في أسمائه وصفاته وآياته.
الثالث : قول من يقول : إن ما بلغته الرسل عن الله من المعنى والألفاظ ليس هو كلام الله، وإن القرآن كلام التالين لا كلام رب العالمين. فهذه الأقوال الثلاثة باطلة بأي عبارة عبر عنها.
وأما قول من قال : إن القرآن العربي كلام الله، بلغه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه تارة يسمع من الله، وتارة من رسله مبلغين عنه، وهو كلام الله حيث تصرف، وكلام الله تكلم به لم يخلقه في غيره، ولا يكون كلام الله مخلوقًا، ولو قرأه الناس وكتبوه وسمعوه. وقال مع ذلك : إن أفعال العباد وأصواتهم وسائر صفاتهم مخلوقة فهذا لا ينكر عليه، وإذا نفى الحلول وأراد به أن صفة الموصوف لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فقد أصاب في هذا المعنى، لكن عليه مع ذلك أن يؤمن أن القرآن العربي كلام الله ـ تعالى ـ وليس هو ولا شيء منه كلامًا لغيره، ولكن بلغته عنه رسله، وإذا كان كلام المخلوق يبلغ عنه مع العلم بأنه كلامه حروفه ومعانيه، ومع العلم بأن شيئًا من صفاته لم تفارق ذاته فالعلم بمثل هذا في كلام الخالق أولى وأظهر. والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon