ونشأ بين هؤلاء الذين هم فروع الصابئة، وبين المؤمنين أتباع الرسل الخلاف، فكفر هؤلاء ببعض ما جاءت به الرسل من وصف الله بالكلام والتكليم، واختلفوا في كتاب الله، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض.
واتبع المؤمنون ما أنزل إليهم من ربهم، من أن الله تكلم بالقرآن، وأنه كلم موسى تكليما، وأنه يتكلم، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه كما فعل الأولون، بل ردوا تحريف أولئك ببصائر الإيمان، الذي علموا به مراد الرسل من إخبارهم برسالة الله وكلامه، واتبعوا هذا القرآن والحديث وإجماع السلف من الصحابة والتابعين وسائر أتباع الأنبياء، وعلموا أن قول هؤلاء أخبث من قول اليهود والنصارى، حتى كان ابن المبارك- إمام المسلمين ـ يقول : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.
وكان قد كثر ظهور هؤلاء، الذين هم فروع المشركين ومن اتبعهم من مبدلة الصابئين، ثم مبدلة اليهود والنصارى في أوائل المائة الثانية، وأوائل الثالثة في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون، بسبب تعريب كتب الروم المشركين الصابئين، الذين كانوا قبل النصارى، ومن أشبههم من فارس والهند، وظهرت علوم الصابئين المنجمين ونحوهم.
وقدم تقدم أن أهل الكلام المبتدع في الإسلام هم من فروع الصابئين، كما يقال : المعتزلة مخانيث الفلاسفة. فظهرت هذه المقالة في أهل العلم والكلام، وفي أهل السيف والإمارة، وصار في أهلها من الخلفاء والأمراء، والوزراء والقضاة، والفقهاء ما امتحنوا به المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الذين اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، ولم يبدلوا ولم يبتدعوا، وذلك لقصور وتفريط من أكثرهم في معرفة حقيقة ما جاء به الرسول واتباعه، وإلا فلو كان ذلك كثيرًا فيهم لم يتمكن أولئك المبتدعة لما يخالف دين الإسلام من التمكن منهم.


الصفحة التالية
Icon