وأول من أظهر ذلك في الإسلام ـ وإن كان ذلك موجودًا قبل الإسلام في أمم أخري ـ الجعد بن درهم شيخ الجهم بن صفوان، وكان ـ علي ما قيل ـ من أهل حَرَّان، وكان فيهم أئمة الفلاسفة، ومنهم تعلم أبو نصر الفارابي كثيرًا مما تعلم من الفلسفة علي ما ذكره عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، فضحي بالجعد خالد بن عبد الله القسري بواسط علي عهد علماء التابعين وغيرهم من علماء المسلمين، وهم بقايا التابعين في وقته؛ مثل الحسن البصري وغيره الذين حمدوه علي ما فعل، وشكروا ذلك فقال : أيها الناس، ضَحُّوا، تقبل الله ضحاياكم؛ فإني مُضَحٍّ بالجعد / بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكيمًا ـ تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرا ـ ثم نزل فذبحه.
وبنوا ذلك علي قاعدة مبتدعة الصابئين، المكذبين ببعض ما جاءت به الرسل، الذين لا يصفون الرب إلا بالصفات السلبية أو الإضافية أو المركبة منهما، وهم في هذا التعطيل موافقون في الحقيقة لفرعون رئيس الكفار الذي جحد الصانع بالكلية ؛ فإن جحود صفاته مستلزم لجحود ذاته؛ ولهذا وافقوا فرعون في تكذيبه لموسى بأن ربه فوق السموات، حيث قال :﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ [ غافر : ٣٦، ٣٧ ].
بخلاف محمد ﷺ الذي صدق موسى لما عرج به إلي ربه، وأخبر أنه وجد موسى هناك وأنه جعل يختلف بين ربه وبين موسى، فمحمد ﷺ صدق موسى في أن ربه فوق السموات، وفرعون كذبه في ذلك. والناس إما محمدي موسوي، وإما فرعوني؛ إذ فرعون كذب موسى في أن الله فوق، وكذبه في أن الله كلمه، كما أنكر وجود الصانع، ومحمد صدق موسى في هذا كله.


الصفحة التالية
Icon