والمعنى الثاني ـ الذي خالفوا فيه أهل السنة والجماعة ـ قولهم : إن القرآن المنزل إلى الأرض ليس هو كلام الله لا حروفه ولا معانيه، بل هو مخلوق عندهم. ويقولون : هو عبارة عن المعنى القائم بالنفس؛ لأن/ العبارة لا تشبه المعبر عنه، بخلاف الحكاية والمحكي، وهذا فيه من زيادة البدع ما لم يكن في قول [ اللفظية ] من أهل الحديث، الذين أنكر عليهم أئمة السنة وقالوا : هم جهمية ؛ إذ جعلوا الحروف من إحداث الرسول، وليست مما تكلم الله به بحال، وقالوا : إنه ليس لله في الأرض كلام، ولم يكن ـ أيضًا ـ في [ اللفظية ] القدماء، الذين يقولون : لفظنا بالقرآن غير مخلوق، من يقول : إن صوت العبد غير مخلوق، أو أن الصوت القديم يسمع من العبد، أو أن هذا الصوت صوت الله، أو يسمع معه صوت الله، وإنما أحدث هذا ـ أيضًا ـ المتطرفون منهم، كما أحدث المتطرفون من أولئك أن حروف القرآن ليست كلام الله، فإن هاتين البدعتين الشنيعتين لم تكونا بَعْدُ ظهرتا في أولئك المنحرفين، الذين أنكر الإمام أحمد وغيره قولهم من الطائفتين، وأن القرآن ليس إلا مجرد معنى قائم بالنفس، وذلك المعنى إليه يعود كلام الله من التوراة والإنجيل والقرآن.
والأخرى قد رأت حروف القرآن من كلام الله، وأن القرآن كلام الله، حروفه ومعانيه، وأن المعنى الواحد يمتنع أن يكون هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، وأنه يمتنع أن يكون مدلول التوراة والإنجيل والقرآن واحدًا، وعلموا أنا إذا ترجمنا التوراة بالعربية لم يصر معناها معنى القرآن، وأن هذه الأقوال معلومة الفساد / بالضرورة، عارضها بعضها، لأن القرآن حرف وصوت، واعتقد بعضهم أنه ليس القرآن والكلام إلا مجرد الحروف والأصوات، وأولئك يقولون : ليس الكلام إلا مجرد المعنى القائم بالنفس.
وكلا هذين السلبين الجحودين الحادثين خلاف ما كان عليه الأئمة، كالإمام أحمد وغيره من الأئمة، وأعيان العلماء من سائر الطوائف. فإن الكلام عندهم اسم للحروف والمعاني جميعًا، كما أن [ الإنسان ] الناطق المتكلم اسم للجسد والروح جميعًا، ومن قال : إن الإنسان ليس إلا هذه الجملة المشاهدة فهو بمنزلة من قال : ليس الكلام إلا الأصوات المقطعة، ومن قال : إن الإنسان ليس إلا لطيفة وراء هذا الجسد، فهو بمنزلة من قال : إن الكلام ليس إلا معنى وراء هذه الحروف والأصوات، وكلاهما جحد لبعض حقائق مسميات الأسماء، وإنكار لحدود ما أنزل الله على رسوله.