والناس قد تنازعوا في كلام الله نزاعًا كثيرًا، والطوائف الكبار نحو ست فرق، فأبعدها عن الإسلام قول من يقول من المتفلسفة والصابئة : إن كلام الله إنما هو ما يفيض على النفوس؛ إما من العقل الفعال، وإما من غيره، وهؤلاء يقولون : إنما كلم الله موسى من سماء عقله، أي بكلام حدث في نفسه لم يسمعه من خارج.
وأصل قول هؤلاء : إن الأفلاك قديمة أزلية، وأن الله لم يخلقها بمشيئته وقدرته في ستة أيام كما أخبرت به الأنبياء، بل يقولون : أن الله لا يعلم الجزئيات، فلما جاءت الأنبياء بما جاؤوا به من الأمور الباهرة جعلوا يتأولون ذلك تأويلات يحرفون فيها الكلم عن مواضعه، ويريدون أن يجمعوا بينها وبين أقوال سلفهم الملاحدة، فقالوا مثل ذلك. وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، وهم كثيروا التناقض، كقولهم : إن الصفة هي الموصوف، وهذه الصفة هي الأخرى، فيقولون : هو عقل وعاقل ومعقول، ولذيذ. وملتذ ولذة، وعاشق ومعشوق وعشق.. وقد يعبرون عن ذلك بأنه حي عالم معلوم، محب محبوب. ويقولون : نفس العلم هو نفس المحبة، وهو نفس القدرة، ونفس العلم هو نفس العالم، ونفس المحبة هي نفس المحبوب.
ويقولون : إنه علة تامة في الأزل؛ فيجب أن يقارنها معلولها في / الأزل في الزمن، وإن كان متقدمًا عليها بالعلة لا بالزمان. ويقولون : إن العلة التامة ومعلولها يقترنان في الزمان ويتلازمان، فلا يوجد معلول إلا بعلة تامة، ولا تكون علة تامة إلا مع معلولها في الزمان. ثم يعترفون بأن حوادث العالم حدثت شيئًا بعد شيء من غير أن يتجدد من المبدع الأول ما يوجب أن يصير علة للحوادث المتعاقبة، بل حقيقة قولهم أن الحوادث حدثت بلا مُحْدِث، وكذلك عدمت بعد حدوثها من غير سبب يوجب عدمها على أصلهم.


الصفحة التالية
Icon