ثم لما تكلم في [ النبوات ] من اتبع أرسطو ـ كابن سينا وأمثاله ـ ورأوا ما جاءت به الأنبياء من إخبارهم بأن الله يتكلم، وأنه كلم موسى تكليمًا. وأنه خالق كل شيء، أخذوا يحرفون كلام الأنبياء عن مواضعه، فيقولون : الحدوث نوعان، ذاتي وزماني، ونحن نقول : إن الفلك محدث الحدوث الزماني؛ بمعنى أنه معلول وإن كان أزليًا لم يزل مع الله، وقالوا : إنه مخلوق بهذا الاعتبار، والكتب الإلهية أخبرت بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، والقديم الأزلي لا يكون في أيام.
وقد علم بالاضطرار أن ما أخبرت به الرسل ـ من أن الله خلق كل شيء، وأنه خلق كذا ـ إنما أرادوا بذلك أنه خلق المخلوق، وأحدثه بعد أن لم يكن، كما قال :﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ [ مريم : ٩ ]، والعقول الصريحة توافق ذلك، وتعلم أن المفعول المخلوق المصنوع لا يكون مقارنًا للفاعل في الزمان ولا يكون إلا بعده، وأن الفعل لا يكون إلا بإحداث المفعول.
وقالوا لهؤلاء قولكم :[ إنه مؤثر تام في الأزل ] لفظ مجمل يراد به التأثير العام في كل شيء، ويراد به التأثير المطلق في شيء بعد شيء، ويراد به التأثير في شيء معين دون غيره؛ فإن أردتم الأول لزم ألا يحدث في العالم حادث، وهذا خلاف المشاهدة. وإن أردتم الثاني لزم أن يكون كل ما سوى الله مخلوقًا حادثًا كائنًا بعد أن لم يكن، وكان الرب لم يزل متكلمًا بمشيئته فعالا لما يشاء، وهذا يناقض قولكم، ويستلزم أن كل ما سواه مخلوق، ويوافق ما أخبرت به الرسل، وعلى هذا يدل العقل الصريح، فتبين أن العقل الصريح يوافق ما أخبرت به الأنبياء. وإن أردتم الثالث فسد قولكم؛ لأنه يستلزم أنه يشاء حدوثها بعد أن لم يكن فاعلا لها من غير تجدد سبب يوجب الإحداث، وهذا يناقض قولكم؛ فإن صح هذا جاز أن يحدث كل شيء بعد أن لم يكن محدثًا لشيء، وإن لم يصح هذا بطل، فقولكم باطل على التقديرين.


الصفحة التالية
Icon