وإن كان هو سبحانه لم يزل قادرًا على الكلام والفعل، بل لم يزل متكلما إذا شاء فاعلا لما يشاء، ولم يزل موصوفًا بصفات الكمال، منعوتًا بنعوت الجلال والإكرام، والعالم فيه من الأحكام والإتقان ما دل على علم الرب، وفيه من الاختصاص ما دل على مشيئته وفيه من الإحسان مادل على رحمته، وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته، وفيه / من الحوادث ما دل على قدرة الرب تعالى، مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته؛ فإنه مستحق لكل كمال ممكن الوجود لا نقص فيه، منزه عن كل نقص، وهو سبحانه ليس له كفؤ في شىء من أموره، فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل منزه فيها عن التشبيه والتمثيل، ومنزه عن النقائص مطلقًا؛ فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل، وكماله من لوازم ذاته المقدسة لا يستفيده من غيره، بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء وما جعله فيهم من صفات الأحياء، وخالق صفات الكمال أحق بها، ولا كفؤ له فيها.
وأصل اضطراب الناس في [ مسألة كلام الله ] : أن الجهمية والمعتزلة لما ناظرت الفلاسفة في [ مسألة حدوث العالم ] اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثًا، بناء على أن مالا يتناهى لا يمكن وجوده، والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام، بل كان ذلك ممتنعًا عليه، وكان معطلا عن ذلك، وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادرًا في الأزل على الفعل فيما لا يزال مع امتناع الفعل عليه في الأزل، فيجمعون بين النقيضين حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته، إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أول والأزل لا أول له والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين.


الصفحة التالية
Icon