قاعدة في القرآن وكلام الله :
فإن الأمة اضطربت في هذا اضطرابًا عظيمًا، وتفرقوا واختلفوا بالظنون والأهواء بعد مضي القرون الثلاثة، لما حدثت فيهم الجهمية المشتقة من الصابئة، وقد قال الله تعالى :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ [ البقرة : ١٧٦ ]، وقال تعالى :﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٣١ ].
والاختلاف نوعان : اختلاف في تنزيله، واختلاف في تأويله.
والمختلفون الذين ذمهم الله هم المختلفون في الحق؛ بأن ينكر هؤلاء الحق الذي مع هؤلاء، أو بالعكس؛ فإن الواجب الإيمان بجميع الحق المنزل، فأما من آمن بذلك وكفر به غيره فهذا اختلاف يذم فيه أحد الصنفين، كما قال تعالى :﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ إلى قوله :/ ﴿ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [ البقرة : ٢٥٣ ]، والاختلاف في تنزيله أعظم، وهو الذي قصدنا هنا، فنقول :
الاختلاف في تنزيله هو بين المؤمنين والكافرين؛ فإن المؤمنين يؤمنون بما أنزل، والكافرون كفروا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله فسوف يعلمون، فالمؤمنون بجنس الكتاب والرسل من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين يؤمنون بذلك، والكافرون بجنس الكتاب والرسل من المشركين والمجوس والصابئين يكفرون بذلك.
وذلك أن الله أرسل الرسل إلى الناس لتبلغهم كلام الله الذي أنزله إليهم، فمن آمن بالرسل آمن بما بلغوه عن الله، ومن كذب بالرسل كذب بذلك، فالإيمان بكلام الله داخل في الإيمان برسالة الله إلى عباده، والكفر بذلك هو الكفر بهذا، فتدبر هذا الأصل، فإنه فرقان هذا الاشتباه؛ ولهذا كان من يكفر بالرسل تارة يكفر بأن الله له كلام أنزله على بشر، كما أنه قد يكفر برب العالمين؛ مثل فرعون وقومه، قال الله تعالى :﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ﴾ الآية [ يونس : ٢ ]، وقال تعالى ـ عن نوح وهود ـ :﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ ﴾ [ الأعراف : ٦٣ ] وقال :﴿ وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ﴾ [ الأنعام : ٩١ ] إلى آخر الكلام، / فإن في هذه الآيات تقرير قواعد، وقال عن الوحيد [ هو الوليد بن المغيرة ] :﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾ [ المدثر : ٢٥ ].
ولهذا كان أصل [ الإيمان ] الإيمان بما أنزله، قال تعالى :﴿ الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ﴾ إلى قوله :﴿ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ [ البقرة : ١ ـ ٤ ] وفي وسط السورة :﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ الآية [ البقرة : ١٣٦ ]، وفي آخرها :{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ


الصفحة التالية
Icon