وقولهم : يعلم نفسه ومفعولاته حق، كما قال تعالى :﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [ الملك : ١٤ ]، لكن قولهم مع ذلك : إنه لا يعلم الأعيان المعينة، جهل وتناقض؛ فإن نفسه المقدسة معينة، والأفلاك معينة، وكل موجود معين. فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئًا من الموجودات؛ إذ الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئًا من الموجودات، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
وهم إنما ألجأهم إلى هذا الإلحاد فرارهم من تجدد الأحوال ـ للباري تعالى ـ مع أن هؤلاء يقولون إن الحوادث تقوم بالقديم، وإن الحوادث لا أول لها، لكن نفوا ذلك عن الباري؛ لاعتقادهم أنه لا صفة له، بل هو وجود مطلق، وقالوا : إن العلم نفس عين العالم، والقدرة نفس عين القادر، والعلم والعالم شيء واحد، والمريد والإرادة / شيء واحد، فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، وجعلوا الصفات هي الموصوف.
ومنهم من يقول بل العلم كل المعلوم، كما يقوله الطوسي صاحب [ شرح الإشارات ]، فإنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه، وابن سينا أقرب إلى الصواب لكنه تناقض مع ذلك حيث نفي قيام الصفات به، وجعل الصفة عين الموصوف وكل صفة هي الأخري.
ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول معاني الكلام شيء واحد لكنهم ألزموا قولهم لأولئك، فقالوا : إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئًا واحدًا جاز أن يكون العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة. فاعترف حذاق أولئك بأن هذا الإلزام لا جواب عنه.