ونحن ليس معنا علم بانتفاء عدالة الراوي، لكن معنا عدم العلم بعدالتهما، وقد لا تعلم عدالتهما مع تقويتها ورجحانها في نفس الأمر، فمن هنا يقع الخطأ في الاجتهاد، لكن هذا لا سبيل إلى أن يكلفه العالم أن يدع ما يعلمه إلى أمر لا يعلمه لإمكان ثبوته في نفس الأمر، فإذا كان لابد من ترجيح أحد القولين وجب ترجيح هذا الذي علم ثبوته على ما لا يعلم ثبوته، وإن لم يعلم انتفاؤه من جهته، فإنهما إذا تعارضا وكانا متناقضين، فإثبات أحدهما هو نفي الآخر، فهذا الدليل المعلوم قد علم أنه يثبت هذا وينفي ذلك، وذلك المجهول بالعكس، فإذا كان لابد من الترجيح وجب قطعًا ترجيح المعلوم ثبوته على ما لم يعلم ثبوته.
ولكن قد يقال : إنه لا يقطع بثبوته، وقد قلنا : فرق بين اعتقاد الرجحان ورجحان الاعتقاد، أما اعتقاد الرجحان فهو علم، والمجتهد ما عمل إلا بذلك العلم، وهو اعتقاد رجحان هذا على هذا، وأما رجحان هذا الاعتقاد على هذا الاعتقاد فهو الظن، لكن لم يكن ممن قال اللّه فيه :﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ﴾ [ النجم : ٢٣ ]، بل هنا ظن رجحان هذا وظن رجحان ذاك، وهذا الظن هو الراجح، ورجحانه معلوم، فحكم بما علمه من الظن الراجح ودليله الراجح، وهذا معلوم له لا مظنون عنده، وهذا يوجد في جميع العلوم، والصناعات، كالطب، والتجارة، وغير ذلك.
وأما الجواب عن قولهم : الفقه من باب الظنون : فقد أجاب طائفة ـ منهم أبو الخطاب ـ بجواب آخر، وهو أن العلم المراد به العلم الظاهر، وإن جوز أن يكون الأمر بخلافه، كقوله :﴿ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ ﴾ [ الممتحنة : ١٠ ].
والتحقيق أن عنه جوابين :