فجاء آخرون من جهميتهم فرأوا هذا مكابرة، ولابد من إثبات القديم والواجب، فقالوا : هو هذا العالم، فكان قدماء الجهمية يقولون : إنه بذاته في كل مكان، وهؤلاء قالوا : هو عين الموجودات، والموجود القديم الواجب هو نفس الموجود المحدث الممكن، والحلول هو الذي أظهرته الجهمية للناس حتى عرفه السلف والأئمة وردوه، وأما حقيقة قولهم فهو النفي أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولكن هذا لم تسمعه الأئمة، ولم يعرفوا أنه قولهم إلا من باطنهم؛ ولهذا كان الأئمة يحكون عن الجهمية أنه في كل مكان، ويحكون عنهم وصفه بالصفات السلبية، وشاع عند الناس أن الجهمية يصفونه بالسلوب حتى قال أبو تمام :
جهمية الأوصاف إلا أنها ** قد حليت بمحاسن الأشياء
وهم لم يقصدوا نفي القديم والواجب، فإن هذا لا يقصده أحد من العقلاء لا مسلم ولا كافر؛ إذ كان خلاف ما يعلمه كل أحد ببديهة عقله، فإنه إذا قدر أن جميع الموجودات حادثة عن عدم، لزم أن كل الموجودات حدثت بأنفسها، ومن المعلوم ببداهة العقول أن الحادث لا يحدث بنفسه؛ ولهذا قال تعالى :﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون ﴾ [ الطور : ٣٥ ]، وقد قيل :﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ﴾ من غير رب خلقهم، وقيل : من غير مادة، وقيل : من غير عاقبة وجزاء، والأول مراد قطعًا، فإن كل ما خلق من مادة أو لغاية فلابد له من خالق.
ومعرفة الفطر أن المحدث لابد له من محدث أظهر فيها، من أن كل محدث لابد له من مادة خلق منها وغاية خلق لها؛ فإن كثيرًا من العقلاء نازع في هذا وهذا، ولم ينازع في الأول، طائفة قالت : إن هذا العالم حدث من غير محدث أحدثه، بل من الطوائف من قال : إنه قديم بنفسه واجب بنفسه ليس له صانع، و إما أن يقول : إنه محدث حدث بنفسه بلا صانع، فهذا لا يعرف عن طائفة معروفة، وإنما يحكي عمن لا يعرف.


الصفحة التالية
Icon