ولا ريب أن القرامطة ـ وأمثالهم من الفلاسفة ـ يقولون : إنه أظهر خلاف ما أبطن، وأنه خاطب العامة بأمور أراد بها خلاف ما أفهمهم لأجل مصلحتهم؛ إذ كان لا يمكنه صلاحهم إلا بهذا الطريق. وقد زعم ذلك ابن سينا وأصحاب ( رسائل إخوان الصفا ) وأمثالهم من الفلاسفة والقرامطة الباطنية؛ فإن ابن سينا كان هو وأهل بيته من أتباع الحاكم القرمطي العبيدي، الذي كان بمصر.
وقول هؤلاء. كما أنه من أكفر الأقوال، فجهلهم من أعظم الجهل؛ وذلك أنه إذا كان الأمر كذلك فلابد أن يعلمه أهل العقل والذكاء من الناس، وإذا علموه امتنع في العادة تواطؤهم على كتمانه كما يمتنع تواطؤهم على الكذب؛ فإنه كما يمتنع في العادة تواطؤ الجميع على الكذب يمتنع تواطؤهم على كتمان ما تتوفر الهِمَم والدواعي على بيانه وذِكْره، لا سيما مثل معرفة هذه الأمور العظيمة، التي معرفتها والتكلم بها من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي عليه. ألا ترى أن الباطنية ـ ونحوهم ـ أبطنوا خلاف ما أظهروه للناس، وسعوا في ذلك بكل طريق، وتواطؤوا عليه ما شاء اللّه، حتى الْتبَسَ أمْرُهُم على كثير من أتباعهم، ثم إنهم مع ذلك اطَّلع على حقيقة أمرهم جميع أذكياء الناس من موافقيهم ومخالفيهم، وصنفوا الكتب في كشف أسرارهم ورفع أستارهم، ولم يكن لهم في الباطن حرمة عند من عرف باطنهم، ولا ثقة بما يخبرون به، ولا التزام طاعة لما يأمرون، وكذلك من فيه نوع من هذا الجنس.


الصفحة التالية
Icon