ومعلوم أن الرسل فعلوا ما عليهم، بل قد أخذ اللّه على أهل العلم الميثاق بأن يبينوا العلم ولا يكتموه، وذم كاتميه فقال تعالى :﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ﴾ [ آل عمران : ١٨٧ ]، وقال تعالى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ ﴾ [ البقرة : ١٤٠ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [ البقرة : ١٥٩ ] فقد لعن كاتمه، وأخبر أنه بينه للناس في الكتاب، فكيف يكون قد بينه للناس وهو قد كتم الحق وأخفاه، وأظهر خلاف ما أبطن ؟ فلو سكت عن بيان الحق كان كاتمًا، ومن نسب الأنبياء إلى الكذب والكتمان مع كونه يقول : إنهم أنبياء، فهو من أشر المنافقين وأخبثهم وأبينهم تناقضًا.
وكثير من أهل النسك والعبادة والعلم والنظر ـ ممن سلك طريق بعض الصوفية والفقراء، وبعض أهل الكلام والفلسفة ـ يسلك مسلك الباطنية في بعض الأمور لا في جميعها، حتى يرى بعضهم سقوط الصلاة عن بعض الخواص، أو حِلَّ الخمر وغيرها من المحرمات لهم، أو أن لبعضهم طريقًا إلى اللّه ـ عز وجل ـ غير متابعة الرسول.
وقد يحتج بعضهم بقصة موسي والخِضْر، ويظنون أن الخضر خرج عن الشريعة؛ فيجوز لغيره من الأولياء ما يجوز له من الخروح عن الشريعة، وهم في هذا ضالون من وجهين :
أحدهما : أن الخضر لم يخرج عن الشريعة، بل الذي فعله كان جائزًا في شريعة موسى؛ ولهذا لما بَيَّن له الأسباب أقره على ذلك، ولو لم يكن جائزًا لما أقره، ولكن لم يكن موسى يعلم الأسباب التي بها أبيحت تلك، فظن أن الخضر كالملك الظالم، فذكر ذلك له الخضر.


الصفحة التالية
Icon