وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا اللّه؛ فإن اللّه يقول :﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ [ السجدة : ١٧ ] ويقول :( أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خَطَرَ علَى قلب بَشَر )، وقال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء؛ فإن اللّه قد أخبر أن في الجنة خمرًا ولبنًا وماءً وحريرًا وذهبًا وفضة وغير ذلك، ونحن نعلم قطعًا أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه، كما في قوله :﴿ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ [ البقرة : ٢٥ ] على أحد القولين أنه يشبه ما في الدنيا وليس مثله، فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه. فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه. وتلك الحقائق على ما هي عليه هي تأويل ما أخبر اللّه به.
وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم، فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح، ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن. ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحاني إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد، وإن كان من منافقة الملتين المقرين بحشر الأجساد تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحاني والسماع الطيب والروائح العطرة، فكل ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته.


الصفحة التالية
Icon