ثم في آخر عصر الصحابة حدثت [ القدرية ]، وأصل بدعتهم كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر اللّه، والإيمان بأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وظنوا أن ذلك ممتنع، وكانوا قد آمنوا بدين اللّه، وأمره ونهيه ووعده ووعيده، وظنوا أنه إذا كان كذلك لم يكن قد علم قبل الأمر من يطيع ومن يعصى؛ لأنهم ظنوا أن من علم ما سيكون لم يحسن منه أن يأمر وهو يعلم أن المأمور يعصيه ولا يطيعه، وظنوا أيضًا أنه إذا علم أنهم يفسدون لم يحسن أن يخلق من يعلم أنه يفسد، فلما بلغ قولهم ـ بإنكار القدر السابق ـ الصحابة أنكروا إنكارًا عظيمًا وتبرؤوا منهم، حتى قال عبد اللّه بن عمر : أخبر أولئك أني برىء منهم، وأنهم منى برآء، والذي يحلف به عبد اللّه بن عمر : لو أن لأحدهم مثل أحُدٍ ذهبًا فأنفقه ما قبله اللّه منه حتى يؤمن بالقدر، وذكر عن أبيه حديث جبريل وهذا أول حديث في صحيح مسلم، وقد أخرجه البخاري ومسلم من طريق أبي هريرة أيضًا مختصرًا.
ثم كثر الخوض في القدر، وكان أكثر الخوض فيه بالبصرة والشام وبعضه في المدينة، فصار مقتصدوهم وجمهورهم يقرون بالقدر السابق وبالكتاب المتقدم، وصار نزاع الناس في [ الإرادة ] و [ خلق أفعال العباد ] فصاروا في ذلك حزبين :
النفاة يقولون : لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئًا من أفعال العباد.
وقابلهم الخائضون في القدر من [ المجبرة ] مثل الجهم بن صفوان وأمثاله، فقالوا : ليست الإرادة إلا بمعنى المشيئة، والأمر والنهي لا يستلزم إرادة، وقالوا : العبد لا فعل له البتة ولا قدرة، بل اللّه هو الفاعل القادر فقط، وكان جهم مع ذلك ينفي الأسماء والصفات، يذكر عنه أنه قال : لا يسمى اللّه شيئًا، ولا غير ذلك من الأسماء التي تسمى بها العباد إلا القادر فقط؛ لأن العبد ليس بقادر.


الصفحة التالية
Icon