وسواء قيل بالقطع في النفي أو الإثبات، فذلك لا يمنع كونها من موارد الاجتهاد التي لا تكفير ولا تفسيق فيها للنافي ولا للمثبت، بل قد يقال ما قاله طائفة من العلماء : إن كل واحد من القولين حق، وأنها آية من القرآن في بعض القراءات، وهي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين، وليست آية في بعض القراءات، وهي قراءة الذين يصلون ولا يفصلون بها بين السورتين.
وأما قول السائل : ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف ؟ فهذا مرجعه إلى النقل واللغة العربية، لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله، إذ ليس لأحد أن يقرأ قراءة بمجرد رأيه، بل القراءة سنة متبعة، وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمامي، وقد قرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء، لم يكن واحد منهما خارجا عن المصحف.
ومما يوضح ذلك : أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء، ويتنوعون في بعض، كما اتفقوا في قوله تعالى :﴿ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ البقرة : ٧٤ ] في موضع وتنوعوا في موضعين، وقد بينا أن القراءتين كالآيتين، فزيادة القراءات كزيادة الآيات، لكن إذا كان الخط واحدًا واللفظ محتملاً كان ذلك أخصر في الرسم.
والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على المصاحف، كما في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال :( إن ربي قال لي أن قم في قريش فأنذرهم. فقلت : أي رب، إذًا يثلغوا رأسي ـ أي يشدخوا ـ فقال : إني مبتليك ومُبْتَلٍ بك، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظَانًا، فابعث جندًا أبعث مثليهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأَنْفِقْ أُنْفِقْ عليك ) فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرؤه في كل حال، كما جاء في نعت أمته :( أناجيلهم في صدورهم ) بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب، ولا يقرؤونه كله إلا نظرًا لا عن ظهر قلب.