وكلام السلف يوافق ما ذكرناه، قال ابن عباس : هذه الآية لم تنسخ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يقول : إنى أخبركم بما أخفيتم فى أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتى، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله :﴿ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ ﴾ يقول : يخبركم به اللّه، وأما أهل الشرك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب، وهو قوله :﴿ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء ﴾ [ البقرة : ٢٨٤ ].
وقد روى عن ابن عباس : أنها نزلت فى كتمان الشهادة، وروى ذلك عن عكرمة والشعبى، وكتمان الشهادة من باب ترك الواجب، وذلك ككتمان العيب الذى يجب إظهاره، وكتمان العلم الذى يحب إظهاره، وعن مجاهد : أنه الشك واليقين، وهذا أيضاً من باب ترك الواجب؛ لأن اليقين واجب. وروى عن عائشة : ما أعلنت فإن الله يحاسبك به، وأما ما أخفيتَ فما عجلتْ لك به العقوبة فى الدنيا. وهذا قد يكون مما يعاقب فيه العبد بالغم، كما سئل سفيان بن عيينة عن غم لا يعرف سببه قال : هو ذنب هممت به فى سرك ولم تفعله، فجزيت هَمًّا به.
فالذنوب لها عقوبات؛ السر بالسر، والعلانية بالعلانية، وروى عنها مرفوعا قالت : سألت رسول اللّه ﷺ عن هذه الآية :﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ ﴾ فقال :( يا عائشة، هذه معاتبة الله العبد مما يصيبه من النَّكْبَةِ والحمى، حتى الشوكة والبِضَاعَة يضعها فى كمِّه فيفقدها فَيُرَوعُ لها فيجدها فى جيبه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التِّبْرُ الأحمر من الكِير ).
قلت : هذا المرفوع هو ـ والله أعلم ـ بيان ما يعاقب به المؤمن فى الدنيا؛ وليس فيه أن كل ما أخفاه يعاقب به، بل فيه أنه إذا عوقب على ما أخفاه عوقب بمثل ذلك، وعلى هذا دلت الأحاديث الصحيحة.


الصفحة التالية
Icon