أحدها : أن المحرمات قسمان :
أحدهما : ما يقطع بأن الشرع لم يبح منه شيئاً لا لضرورة ولا لغير ضرورة؛ كالشرك، والفواحش، والقول على اللّه بغير علم، والظلم المحض، وهى الأربعة المذكورة فى قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٣ ].
فهذه الأشياء محرمة فى جميع الشرائع، وبتحريمها بعث الله جميع الرسل، ولم يبح منها شيئاً قط، ولا فى حال من الأحوال؛ ولهذا أنزلت في هذه السورة المكية، ونفى التحريم عما سواها؛ فإنما حرمه بعدها كالدم والميتة ولحم الخنزير، حرمه فى حال دون حال، وليس تحريمه مطلقاً.
وكذلك الخمر، يباح لدفع الغُصَّة بالاتفاق، ويباح لدفع العطش في أحد قولي العلماء، ومن لم يبحها قال : إنها لا تدفع العطش، وهذا مأخذ أحمد. فحينئذ، فالأمر موقوف على دفع العطش بها؛ فإن علم أنها تدفعه أبيحت بلا ريب، كما يباح لحم الخنزير لدفع المجاعة، وضرورة العطش الذي يرى أنه يهلكه أعظم من ضرورة الجوع؛ ولهذا يباح شرب النجاسات عند العطش بلا نزاع؛ فإن اندفع العطش وإلا فلا إباحة فى شيء من ذلك.
وكذلك الميسر، فإن الشارع أباح السبق فيه بمعنى الميسر للحاجة فى مصلحة الجهاد. وقد قيل : إنه ليس منه، وهو قول من لم يبح العوض من الجانبين مطلقاً إلا المحلل. ولا ريب أن الميسر أخف من أمر الخمر، وإذا أبيحت الخمر للحاجة فالميسر أولى. والميسر لم يحرم لذاته إلا لأنه يصد عن ذكر اللّه وعن الصلاة، ويوقع العداوة والبغضاء، فإذا كان فيه تعاون على الرمي الذي هو من جنس الصلاة، وعلى الجهاد الذي فيه تعاون، وتتألف به القلوب على الجهاد، زالت هذه المفسدة.


الصفحة التالية
Icon