وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره : أنه أنزل في ليلة القدر إلي بيت العزة في السماء الدنيا، ولا ينافي أنه مكتوب في اللوح قبل نزوله، سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل، أو بعده. فإذا أنزل جملة إلي بيت العزة فقد كتبه كله قبل أن ينزله، والله يعلم ما كان وما يكون، وما لا يكون لو كان كيف يكون، وهو قد كتب المقادير وأعمال العباد قبل أن يعملوها، ثم يأمر بكتابتها بعد أن يعملوها، فيقابل بين / الكتابة المتقدمة والمتأخرة فلا يكون بينهما تفاوت، هكذا قال ابن عباس وغيره. فإذا كان ما يخلقه بائنًا عنه قد كتبه قبل أن يخلقه، فكيف لا يكتب كلامه الذي يرسل به ملائكته قبل أن يرسلهم ؟.
ومن قال : إن جبرائيل أخذه عن الكتاب، لم يسمعه من الله فهو باطل من وجوه :
منها : أنه ـ سبحانه ـ كتب التوراة لموسي بيده، فبنو إسرائيل أخذوا كلامه من الكتاب الذي كتبه ومحمد عن جبريل عن الكتاب فهم أعلي بدرجة، ومن قال : إنه ألقي إلي جبريل معاني وعبر بالعربي فمعناه أنه ألهمه إلهاما، وهذا يكون لآحاد المؤمنين، كقوله :﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي ﴾ [ المائدة : ١١١ ]، ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ﴾ [ القصص : ٧ ]، فيكون هذا أعلي من أخذ محمد ﷺ.
وأيضًا : فإنه ـ سبحانه ـ قال :﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ﴾ إلي قوله :﴿ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [ النساء : ١٦٣، ١٦٤ ]، وهذا يدل علي أمور : علي أنه يكلم العبد تكليما زائدًا علي الوحي الذي هو قسيم التكليم الخاص.
فإن لفظ التكليم والوحي كل منهما ينقسم إلي عام وخاص، فالتكليم / العام : هو المقسوم في قوله :﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ﴾ الآية [ الشوري : ٥١ ]. فالتكليم المطلق قسيم الوحي الخاص، لا قسمًا منه، وكذلك الوحي يكون عامًا فيدخل فيه التكليم الخاص، كقوله :﴿ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴾ [ طه : ١٣ ]، ويكون قسيمًا له كما في الشوري، وهذا يبطل قول من قال : إنه معني واحد قائم بالذت، فإنه لا فرق بين العام وما لموسي. وفرق ـ سبحانه ـ في ( الشوري ) بين الإيحاء، وبين التكليم من وراء حجاب، وبين إرسال رسول فيوحي بإذنه ما يشاء.


الصفحة التالية
Icon