وأما قوله تعالى :﴿ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ﴾ [ الروم : ٤٩ ]، فهى من أشكل ما أورد، ومما أعضل على الناس فهمها، فقال كثير من أهل الإعراب والتفسير : إنه على التكرير المحض والتأكيد، قال الزمخشرى :﴿ مِّن قَبْلِهِ ﴾ من باب التوكيد، كقوله تعالى :﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ﴾ [ الحشر : ١٧ ]، ومعنى التوكيد فيه : الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبَعُدَ فاستحكم يأسهم، وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار بذلك على قدر اهتمامهم بذلك. هذا كلامه. وقد اشتمل على دعويين باطلتين :
إحداهما : قوله : إنه من باب التكرير.
والثانية : تمثيله ذلك بقوله تعالى :﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ﴾ [ الحشر : ١٧ ]، فإن [ فى ] الأولى على حد قولك : زيد فى الدار، أى : حاصل أو كائن، وأما الثانية : فمعمولة للخلود وهو معنى آخر غير معنى مجرد الكون، فلما اختلف العاملان ذكر الحرفين، فلو اقتصر على أحدهما كان من باب الحذف لدلالة الآخر عليه، ومثل هذا لا يقال له تكرار، ونظير هذا أن تقول : زيد فى الدار نائم فيها، أو ساكن فيها، ونحوه مما هو جملتان مقيدتان بمعنيين.
وأما قوله :﴿ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ ﴾، فليس من التكرار بل تحته معنى دقيق، والمعنى فيه : وإن كانوا من قبل أن ينزل / عليهم الودق من قبل هذا النزول لمبلسين، فهنا قَبْلِىّتان : قبلية لنزوله مطلقًا، وقبلية لذلك النزول المعين ألا يكون متقدمًا على ذلك الوقت، فيئسوا قبل نزوله يَأْسَىنِ : يأسًا لعدمه مرئيًا، ويأسًا لتأخره عن وقته، فقبل الأولى ظرف لليأس، وقبل الثانية ظرف المجىء والإنزال.
ففى الآية ظرفان معمولان، وفعلان مختلفان عاملان فيهما، وهما الإنزال والإبلاس، فأحد الظرفين متعلق بالإبلاس، والثانى متعلق بالنزول؛ وتمثيل هذا : أن تقول ـ إذا كنت معتادًا للعطاء من شخص فتأخر عن ذلك الوقت ثم أتاك به : قد كنت آيسًا.