وكذلك الذنوب، إذا جزم السارق بأنه يؤخذ ويقطع، لم يسرق. وكذلك الزاني، إذا جزم بأنه يرجم، لم يزن. والشارب يختلف حاله، فقد يقدم على جلد أربعين وثمانين، ويديم الشرب مع ذلك؛ ولهذا كان الصحيح : أن عقوبة الشارب غير محدودة، بل يجوز أن تنتهي إلى القتل، إذا لم ينته إلا بذلك، كما جاءت بذلك الأحاديث، كما هو مذكور فى غير هذا الموضع.
وكذلك العقوبات، متى جزم طالب الذنب بأنه يحصل له به الضرر الراجح لم يفعله، بل إما ألا يكون جازماً بتحريمه، أو يكون غير جازم بعقوبته، بل يرجو العفو بحسنات، أو توبة، أو بعفو اللّه، أو يغفل عن هذا كله، ولا يستحضر تحريماً، ولا وعيداً فيبقى غافلا غير مستحضر للتحريم، والغفلة من أضداد العلم.

فصل


فالغفلة والشهوة أصل الشر، قال تعالى :﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [ الكهف : ٢٨ ]، والهوى وحده لا يستقل بفعل السيئات إلا مع الجهل، وإلا فصاحب الهوى إذا علم قطعاً أن ذلك يضره ضرراً راجحاً، انصرفت نفسه عنه بالطبع؛ فإن اللّه ـ تعالى ـ جعل فى النفس حباً لما ينفعها، وبغضاً لما يضرها، فلا تفعل ما تجزم بأنه يضرها ضرراً راجحاً، بل متى فعلته كان لضعف العقل.
ولهذا يوصف هذا بأنه عاقل، وذو نُهَى، وذو حِجَى.
ولهذا كان البلاء العظيم من الشيطان، لا من مجرد النفس؛ فإن الشيطان يزين لها السيئات، ويأمرها بها، ويذكر لها ما فيها من المحاسن التى هي منافع لا مضار، كما فعل إبليس بآدم وحواء، فقال :﴿ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ﴾ [ طه : ١٢٠، ١٢١ ]، وقال :﴿ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾ [ الأعراف : ٢٠ ].


الصفحة التالية
Icon