وكذلك ترى كثيرًا ممن لبس الصوف، ويهجر الشهوات، ويتقشف، وغيره ممن لا يدانيه في ذلك من أهل العلم والإيمان أعظم في القلوب، وأحلي عند النفوس، وما ذاك إلا لقوة المعاملة الباطنة وصفائها، وخُلُوصَها من شهوات النفوس، وأكدار البشرية، وطهارتها من القلوب التي تكدر معاملة أولئك، وإنما نالوا ذلك بقوة يقينهم بما جاء به الرسول، وكمال تصديقه في قلوبهم، ووده ومحبته، وأن يكون الدين كله لله، فإن أرفع درجات القلوب فرحها التام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وابتهاجها وسرورها، كما قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ [ الرعد : ٣٦ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ﴾ الآية [ يونس : ٥٨ ]. ففضل الله ورحمته : القرآن والإيمان، من فرح به فقد فرح بأعظم مَفرُوح به، ومن فرح بغيره فقد ظلم نفسه ووضع الفرح في غير موضعه.
فإذا استقر في القلب، وتمكن فيه العلم بكفايته لعبده، ورحمته له، وحلمه عنده، وبره به، وإحسانه إليه على الدوام، أوجب له الفرح والسرور أعظم من فرح كل مُحِب بكل محبوب سواه، فلا يزال مترقيا / في درجات العلو والارتفاع بحسب رقيه في هذه المعارف.
هذا في باب معرفة الأسماء والصفات. وأما في باب فهم القرآن فهو دائم التفكر في معانيه، والتدبر لألفاظه، واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئًا من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن، فإن شهد له بالتزكية قَبِلَه، وإلا رده، وإن لم يشهد له بقبول ولا رد وقفه، وهمته عاكفة على مراد ربه من كلامه.