كما قال أبو العالية : سألت أصحاب محمد عن قوله :﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍُ ﴾ [ النساء : ١٧ ]، فقالوا لي :[ كل من عصى اللّه فهو جاهل ]. وكذلك قال مجاهد، والحسن البَصْري، وغيرهم من العلماء التابعين ومن بعدهم.
وذلك أن الحصر في معنى الاستثناء، والاستثناء من النفي إثبات عند جمهور العلماء. فنفي الخشية عمن ليس من العلماء؛ وهم العلماء به الذين يؤمنون بما جاءت به الرسل، يخافونه.
قال تعالى :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [ الزمر : ٩ ]. وأثبتها للعلماء. فكل عالم يخشاه. فمن لم يخش اللّه فليس من العلماء، بل من الجهال، كما قال عبد اللّه بن مسعود :[ كفي بخشية اللّه علمًا، وكفي / بالاغترار باللّه جهلًا ]. وقال رجل للشَّعبي :[ أيها العالم ! ] فقال :[ إنما العالم من يخشى اللّه ! ].
فكذلك قوله :﴿ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى ﴾ [ الأعلى : ١٠ ]، يقتضى أن كل من يخشاه فلابد أن يكون ممن تذكر. وقد ذكر أن الأشقى يتجنب الذكرى، فصار الذي يخشى ضد الأشقى. فلذلك يقال :( كل من تذكر خشى ).
والتحقيق أن التذكر سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية؛ كما أن العلم سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية.
وعلى هذا، فقوله في قصة فرعون :﴿ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [ طه : ٤٤ ]، جعل ذلك نوعين لما في ذلك من الفوائد :
أحدها : أنه إذا تذكر أنه مخلوق وأن اللّه خالقه، وليس هو إلهًا وربّا كما ذكر، وذكر إحسان اللّه إليه. فهذا التذكر يدعوه إلى اعترافه بربوبية اللّه وتوحيده وإنعامه عليه. فيقتضى الإيمان والشكر، وإن قدر أن اللّه لا يعذبه.


الصفحة التالية
Icon