ولهذا كان مذهب أهل السنة المحضة أن العبد فاعل لفعله حقيقة، كما ادعاه أبو الحسين من الضرورة، لا يقولون : ليس بفاعل حقيقة، أو ليس بفاعل، كما يقوله المائلون إلى الجبر مثل طائفة أبي عبد الله الرازي. يقولون مع ذلك : إن الله هو الخالق لهذا الفاعل ولفعله، وهو الذي جعله فاعلًا حقيقة، وهو خالق أفعال العباد، كما يقوله أهل الإثبات من الأشعرية ـ طائفة الرازي وغيرهم ـ لا كما يقوله القدرية ـ مثل أبي الحسين وطائفته ـ إن الله لم يخلق أفعال العباد.
ولهذا نص الأئمة ـ كالإمام أحمد، ومن قبله من الأئمة كالأوزاعى وغيره ـ على إنكار إطلاق القول بالجبر نفيًا وإثباتًا، فلا يقال :[ إن الله جبر العباد ]، ولا يقال :[ لم يجبرهم ]. فإنَّ لفظ [ الجبر ] فيه اشتراك وإجمال. فإذا قيل :[ جبرهم ]، أشعر بأن الله يجبرهم على فعل الخير والشر بغير اختيارهم، وإذا قيل :[ لم يجبرهم ]، أشعر بأنهم يفعلون ما يشاؤون بغير اختياره، وكلاهما خطأ. وقد بسطنا القول في هذا في غيرهذا الموضع.
والمقصود ـ هنا ـ أن هذين الفريقين اعتقدوا تنافي القدر والشرع، كما اعتقد ذلك المجوس والمشركون، فقالوا : إذا كان خالقًا للفعل امتنع / أن يكون الفعل في نفسه حسنًا له ثواب، أو قبيحًا عليه عقاب. ثم قالت القدرية : لكن الفعل منقسم، فليس خالقًا للفعل. وقالت الجبرية : لكنه خالق، فليس الفعل منقسمًا.
ولكن الجبرية المقِرُّون بالرسل يُقِرُّون بالانقسام من جهة أمر الشارع ونهيه فقط، ويقولون : له أن يأمر بما شاء لا لمعنى فيه، وينهى عما يشاء لا لأَجْل معنى فيه، ويقولون في خلقه وفي أمره جميعًا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وأما من غلب عليه رأى أو هوى، فإنه ينحل عن ربقة الشارع إذا عاين الجبر، ويقولون ما يقوله المشركون :﴿ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ].


الصفحة التالية
Icon