فجاء طوائف ممن ناظرهم من أهل الإثبات؛ ليقرروا أن الله خالق كل شيء، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، فضاق ذرعهم وعلمهم، واعتقدوا أن هذا لا يتم إن لم ننكر محبة الله ورضاه، وما خص به بعض الأفعال دون بعض من الصفات الحسنة والسيئة وننكر حكمته ورحمته، فيجوز عليه كل فعل، لا ينزه عن ظلم ولا غيره من الأفعال.
وزاد قوم في ذلك، حتى عطلوا الأمر والنهي، والوعد والوعيد ـ رأسًا ـ ومال هؤلاء إلى الإرجاء، كما مال الأولون إلى الوعيد. فقالت الوعيدية :/ كل فاسق خالد في النار لا يخرج منها أبدًا، وقالت الخوارج : هو كافر. وغالية المرجئة أنكرت عقاب أحد من أهل القبلة. ومن صرح بالكفر أنكر الوعيد في الآخرة ـ رأسًا ـ كما يفعله طوائف من الاتحادية، والمتفلسفة، والقرامطة، والباطنية. وكان هؤلاء الجبرية المرجئة أكفر بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، من المعتزلة الوعيدية القدرية.
وأما مقتصدة المرجئة الجبرية، الذين يقرون بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأن من أهل القبلة من يدخل النار، فهؤلاء أقرب الناس إلى أهل السنة.
وقد روى الترمذى عن النبي ﷺ أنه قال :( لُعِنَتْ القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيًا أنا آخرهم ).
لكن المعتزلة من القدرية، أصلح من الجبرية والمرجئة ونحوهم في الشريعة ـ علمها وعملها. فكلامهم في أصول الفقه وفي اتباع الأمر والنهي، خير من كلام المرجئة من الأشعرية وغيرهم. فإن كلام هؤلاء في أصول الفقه قاصر جدًا، وكذلك هم مقصرون في تعظيم الطاعات والمعاصى. ولكن هم في أصول الدين أصلح من أولئك، فإنهم يؤمنون من صفات الله وقدرته وخلقه بما لا يؤمن به أولئك. وهذا الصنف أعلى.
فلهذا كانت المرجئة في الجملة خيرًا من القدرية، حتى إن الإرجاء دخل فيه الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم، بخلاف الاعتزال. فإنه ليس فيه أحد من فقهاء السلف وأئمتهم.
فَصْل