وبكل حال، فالزهري عنده حديث عروة، عن عائشة، وحديث أبي سلمة، عن جابر وهو أوسع علمًا وأحفظ من يحيى بن أبي كثير لو اختلفا. لكن يحيى ذكر أنه سأل أبا سلمة عن الأولى، فأخبر جابر بعلمه، ولم يكن علم ما نزل قبل ذلك، وعائشة أثبتت وبينت.
والآيات ـ آيات [ اقرأ ] و [ المدثر ] ـ تبين ذلك، والحديثان متصادقان مع القرآن ومع دلالة العقل على أن هذا الترتيب هو المناسب.
وإذا كان أول ما أنزل ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [ العلق : ١ ـ ٥ ]، ففي الآية الأولى إثبات الخالق ـ تعالى، وكذلك في الثانية.
وفيها وفي الثانية الدلالة على إمكان النبوة، وعلى نبوة محمد ﷺ.
أما الأولى؛ فإنه قال :﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾، ثم قال :﴿ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾. فذكر الخلق مطلقًا، ثم خص خلق الإنسان أنه خلقه من علق. وهذا أمر معلوم لجميع الناس، كلهم يعلمون أن الإنسان يحدث في بطن أمه، وأنه يكون من علق. وهؤلاء بنو آدم.
وقوله :﴿ الْإِنسَانَ ﴾ هو اسم جنس يتناول جميع الناس، ولم يدخل فيه آدم الذي خلق من طين. فإن المقصود بهذه الآية بيان الدليل على الخالق ـ تعالى، والاستدلال إنما يكون بمقدمات / يعلمها المستدل. والمقصود بيان دلالة الناس وهدايتهم، وهم كلهم يعلمون أن الناس يخلقون من العلق.
فأما خلق آدم من طين، فذاك إنما علم بخبر الأنبياء، أو بدلائل أُخر. ولهذا ينكره طائفة من الكفار ـ الدهرية وغيرهم ـ الذين لا يقرون بالنبوات.


الصفحة التالية
Icon