وكل شيء له حقيقة في نفسه ثابتة في الخارج عن الذهن، ثم / يتصوره الذهن والقلب، ثم يعبر عنه اللسان، ثم يخطه القلم. فله وجود عينى، وذهنى، ولفظى، ورسمى. وجود في الأعيان، والأذهان، واللسان، والبنان. لكن الأول هو هو، وأما الثلاث، فإنها مثال مطابق له. فالأول هو المخلوق، والثلاثة معلمة. فذكر الخلق والتعليم ليتناوب المراتب الأربع، فقال :﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [ العلق : ١ ـ ٥ ].
وقد تنازع الناس في الماهيات هل هي مجعولة أم لا ؟ وهل ماهية كل شيء زائدة على وجوده ؟ كما قد بُسِطَ هذا في غير هذا الموضع وبين الصواب في ذلك، وأنه ليس إلا ما يتصور في الذهن، ويوجد في الخارج.
فإن أريد الماهية ما يتصور في الذهن. وبالوجود ما في الخارج، أو بالعكس، فالماهية غير الوجود إذا كان ما في الأعيان مغايرًا لما في الأذهان.
وإن أريد بالماهية ما في الذهن، أو الخارج، أو كلاهما، وكذلك بالوجود، فالذي في الخارج من الوجود هو الماهية الموجودة في الخارج وكذلك ما في الذهن من هذا هو هذا، ليس في الخارج شيئان :
وهو ـ سبحانه ـ علم ما في الأذهان وخلق ما في الأعيان، وكلاهما مجعول له. لكن الذي في الخارج جعله جعلا خلقيًا. والذي في الذهن جعله جعلا تعليميًا. فهو الذي ﴿ خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾، وهو ﴿ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾.
وقوله :﴿ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾ يدخل فيه تعليم الملائكة الكاتبين، ويدخل فيه تعليم كتب الكتب المنزلة. فعلم بالقلم أن يكتب كلامه الذي أنزله كالتوراة والقرآن، بل هو كتب التوراة لموسى.