وكذلك إذا قيل : المتكلم السميع البصير إما أن يكون متكلمًا سميعًا بصيرًا بنفسه، وإما أن يكون غيره جعله سميعًا بصيرًا، متكلمًا. ومن جعل غيره متكلمًا سميعًا بصيرًا، فهو أولى أن يكون متكلمًا سميعًا بصيرًا، وإلا كان المفعول أكمل من الفاعل، فإن هذه صفات كمال.
وكذلك يقال : العادل؛ إما أن يكون عادلا بنفسه. والصادق؛ إما أن يكون صادقًا بنفسه، وإما أن يكون غيره جعله صادقًا عادلًا. ومن جعل غيره صادقًا عادلًا، فهو أولى أن يكون صادقًا عادلًا.
فهذه كلها طرق صحيحة بينة.
فإن قيل : يُعَارَضُ هذا بأن يقال : من جعل غيره ظالمًا أو كاذبًا فهو ـ أيضًا ـ ظالم كاذب، وأهل السنة يقولون : إنه جعل غيره كذلك، /وليس هو كذلك ـ سبحانه، قيل : هذا باطل من وجهين :
أحدهما : أنه ليس كل من جعل غيره على صفة ـ أى صفة كانت ـ كان متصفًا بها، بل من جعل غيره على صفة من صفات الكمال فهو أولى باتصافه بصفة الكمال من مفعوله.
وأما صفات النقص، فلا يلزم إذا جعل الجاعل غيره ناقصًا أن يكون هو ناقصًا. فالقادر يقدر أن يعجز غيره ولا يكون عاجزًا. والحي يمكنه أن يقتل غيره ويميته ولا يكون ميتًا. والعالم يمكنه أن يُجَهِّل غيره ولا يكون جاهلًا. والسميع والبصير والناطق يمكنه أن يعمى غيره، ويصمه، ويخرصه، ولا يكون هو كذلك.
فلا يلزم ـ حينئذ ـ أن من جعل غيره ظالمًا وكاذبًا أن يكون كاذبًا وظالمًا؛ لأن هذه صفة نقص.
فإن قيل : الكاذب والظالم قد يلزم غيره بالصدق والعدل أحيانًا، قيل : هو لم يجعله صادقًا وعالمًا وإنما أمره بذلك، وهو فعل ذلك بنفسه. ولم نقل : كل من أمر غيره بشيء كان متصفًا بما أمر به غيره.


الصفحة التالية
Icon