وأما الذين قالوا إنهم أثبتوا القديم ـ من الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم من الأشعرية والكَراية الذين استدلوا بحدوث الأعراض/ولزومها للأجسام، وامتناع حوادث لا أول لها، على حدوث الأجسام ـ فهؤلاء لم يثبتوا الصانع؛ لما عرف من فساد هذا الدليل حيث ادعوا امتناع كون الرب متكلمًا بمشيئته أو فعَّالا لما يشاء. بل حقيقة قولهم امتناع كونه لم يزل قادرًا. وأدلتهم على هذا الامتناع قد ذكرت مستوفاة في غير هذا الموضع، وذكر كلامهم هم في بيان بطلانها.
وأما كونهم عطلوا الخالق، فلأن حقيقة قولهم أن من لم يزل متكلمًا بمشيئته فهو محدث، فيلزم أن يكون الرب محدثًا، لا قديمًا. بل حقيقة أصلهم أن ما قامت به الصفات والأفعال فهو محدث، وكل موجود فلا بد له من ذلك، فيلزم أن يكون كل موجود محدثًا. ولهذا صرح أئمة هذا الطريق ـ الجهمية والمعتزلة ـ بنفي صفات الرب، وبنفي قيام الأفعال وسائر الأمور الاختيارية بذاته؛ إذ هذا موجب دليلهم. وهذه الصفات لازمة له، ونفي اللازم يقتضي نفي الملزوم. فكان حقيقة قولهم نفي الرب وتعطيله.
وهم يسمون الصفات أعراضًا، والأفعال ونحوها حوادث. فقالوا : الرب ينزه عن أن تقوم به الأعراض والحوادث. فإن ذلك مستلزِم أن يكون جسمًا. قالوا : وقد أقمنا الدليل على حدوث كل جسم. فإن/الجسم لا ينفك من الأعراض المحدثة ولا يسبقها، وما لم ينفك عن الحوادث ولم يسبقها فهو حادث.
وقد قامت الأدلة السمعية والعقلية على مذهب السلف، وأن الرب لم يزل متكلمًا إذا شاء، فيلزم على قولهم أنه لم يسبق الحوادث ولم ينفك عنها. ويجب على قولهم كونه حادثًا.
فالأصل الذي أثبتوا به القديم هو نفسه يقتضي أنه ليس بقديم، وأنه ليس في الوجود قديم. كما أن أولئك أصلهم يقتضي أنه ليس بواجب بذاته، وأنه ليس في الوجود واجب بذاته.


الصفحة التالية
Icon