ولهذا كتب اللّه فى الكتاب الموضوع عنده فوق العرش :( إن رحمتى تغلب غضبى ). ولهذا كان الخير فى أسماء اللّه وصفاته، وأما الشر ففى الأفعال، كقوله :﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ ﴾ [ الحجر : ٤٩، ٥٠ ]، وقوله ﴿ اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٩٨ ].
يبقى أن يقال : فلم عظمت التقوى ؟ فيقال : إنها هى تحفظ الفطرة وتمنع فسادها، واحتاج العبد إلى رعايتها؛ لأن المحبة الفطرية لا تحتاج إلى محرك؛ ولهذا كان أعظم ما دعت إليه الرسل الإخلاص والنهى عن الإشراك؛ لأن الإقرار الفطرى حاصل لوجود مقتضيه، وإنما يحتاج إلى إخلاصه ودفع الشرك عنه؛ ولهذا كانت حاجة الناس إلى السياسة الدافعة لظلم بعضهم عن بعض والجالبة لمنفعة بعضهم بعضاً، كما أوجب اللّه الزكاة النافعة وحرم الربا الضار، وأصل الدين : هو عبادة اللّه الذي أصله الحب والإنابة والإعراض عما سواه، وهو الفطرة التي فطر عليها الناس.
وهذه المحبة التي هى أصل الدين : انحرف فيها فريق من منحرفة الموسوية من الفقهاء والمتكلمين حتى أنكروها، وزعموا أن محبة اللّه ليست إلا إرادة عبادته، ثم كثير منهم تاركون للعمل بما أمروا به، فيأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهذا فاش فيهم، وهو عدم المحبة والعمل، وفريق من منحرفة العيسوية من الصوفية والمتعبدين، خلطوها بمحبة ما يكرهه، وأنكروا البغض والكراهية، فلم ينكروا شيئاً ولم يكرهوه أو قصروا فى الكراهة والإنكار، وأدخلوا فيها الصور والأصوات ومحبة الأنداد.
ولهذا كان لغواة الأولين وصف الغضب واللعنة الناشئ عن / البغض؛ لأن فيهم البغض دون الحب، وكان لضلال الآخرين وصف الضلال والغلو؛ لأن فيهم محبة لغير معبود صحيح، ففيهم طلب وإرادة ومحبة، ولكن لا إلى مطلوب صحيح، ولا مراد صحيح، ولا محبوب صحيح، بل قد خلطوا وغلوا وأشركوه، ففيهم محبة الحق والباطل، وهو وجود المحبوب والمكروه، كما فى الآخرين بغض الحق والباطل، وهو دفع المحبوب والمكروه واللّه سبحانه يهدينا صراطه المستقيم فيحمد من هؤلاء محبة الحق والاعتراف به، ومن هؤلاء بغض الباطل وإنكاره.


الصفحة التالية
Icon