فلما شاع قوله، وعرف جمهور المسلمين فساده شرعا وعقلا، قالت طائفة أخرى ـ ممن وافقته على مذهب السلف : إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وعلى الأصل الذي أحدثه من القول بقدم القرآن : إن القرآن قديم، وهو مع ذلك الحروف المتعاقبة والأصوات المؤلفة. فصار قول هؤلاء مركبا من قول المعتزلة وقول الكلابية، فإذا ناظروا المعتزلة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق؛ ناظروهم بطريقة ابن كلاب، وإذا ناظرهم الكلابية على أن القرآن العربي كلام الله وأن القرآن الذي يقرأه المسلمون كلام الله؛ ناظروهم بحجج المعتزلة، وليس شيء من هذه الأقوال قول أحد من السلف كما بسط في غير هذا الموضع، ولا قال شيئا من هذه الأقوال لا الأئمة الأربعة ولا أصحابهم الذين أدركوهم، وإنما قاله -ممن ينتسب إليهم- بعض المتأخرين الذين تلقوها عمن قالها من أهل الكلام، ولم يكن لهم خبرة لا بأقوال السلف التي دل عليها الكتاب والسنة والعقل الصريح، /ولا بحقائق أقوال أهل الكلام الذي ذمه السلف، ولم قالوا هذا ؟ ! وما الذي ألجأهم إلى هذا ؟ ! وقد شاع عند العامة والخاصة أن القرآن ليس بمخلوق. والقول بأنه مخلوق قول مبتدع مذموم عند السلف والأئمة، فصار من يطالع كتب الكلام التي لا يجد فيها إلا قول المعتزلة وقول من رد عليهم وانتسب إلى السنة، يظن أنه ليس في المسألة إلا هذا القول، وهذا وذاك قد عرف أنه قول مذموم عند السلف، فيظن القول الآخر قول السلف، كما يقع مثل ذلك في كثير من المسائل في غير هذه، لا يعرف الرجل في المسألة إلا قولين أو ثلاثة، فيظن الصواب واحدا منها، ويكون فيها قول لم يبلغه وهو الصواب دون تلك. وهذا باب واسع في كثير من المسائل، والله يهدينا وسائر إخواننا المسلمين إلى ما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ومن اجتهد بقصد طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده لم يكلفه الله ما يعجز عنه، بل يثيبه الله على ما فعله من طاعته، ويغفر ما أخطأ فيه، فعجز عن معرفته.


الصفحة التالية
Icon