الثاني : أن يقال : قول القائل : معرفة ذاته ومعرفة أسمائه وصفاته ومعرفة أفعاله إن أراد بذلك أن ذاته تعرف بدون معرفة شيء من أسمائه وصفاته الثبوتية والسلبية، فهذا ممتنع، ولو قدر إمكان ذلك أو فرض العبد في نفسه ذاتًا مجردة عن جميع القيود السلبية والثبوتية، فليس ذاك معرفته بالله البتة، ولا هو رب العالمين ذات مجردة عن كل أمر سلبي أو ثبوتي؛ ولهذا لميقل أحد من العقلاء هذا إلا القرامطة الباطنية، يقولون : يسلب عنه كل أمر ثبوتي وعدمي، فلايقال : موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا ليس بعالم، ولا قادر ولا ليس بقادر، ولا نحو ذلك. وهؤلاء مع أن قولهم معلوم الفساد بضرورة العقل، فإنهم /متناقضون، أما الأول؛ فلأن سلب النقيضين ممتنع كما أن جمعهما ممتنع، فيمتنع أن يكون شيء من الأشياء لا موجودًا ولا معدومًا، وأما تناقضهم لابد أن يذكروا ما ذكروا أنه يسلب عنه النقيضان ببعض الأمور التي يتميز بها ليخبر عنه بهذا السلب، وأي شيء قالوه، فلابد أن يتضمن نفيا أو إثباتًا، بل لابد أنيتضمن إثباتًا، وقد بسطنا الرد عليهم في غير هذا الموضع.
ولهذا كان كثير من الملاحدة لايصلون إلى هذا الحد، بل يقولون كما قال أبو يعقوب السجستاني وغيره من الملاحدة : نحن لا ننفي النقيضين، بل نسكت عن إضافة واحد منهما إليه، فلا نقول : هو موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل. فيقال لهم : إعراض قلوبكم عن العلم به، وكف ألسنتكم عن ذكره لايوجب أن يكون هو في نفسه مجردًا عن النقيضين، بليفيد هذا كفركم بالله وكراهتكم لمعرفته وذكره وعبادته، وهذا حقيقة مذهبكم.


الصفحة التالية
Icon