وكذلك قوله :﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] بين أنهم لايعلمون من علمه إلا ما علمهم إياه، كما قالت الملائكة :﴿ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ﴾ [ البقرة : ٣٢ ]، فكان في هذا النفي إثبات أن عباده لايعلمون إلا ما علمهم إياه، فأثبت أنه الذي علمهم، لا ينالون العلم إلا منه، فإنه ﴿ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾ [ العلق : ١، ٢ ]، و ﴿ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [ العلق : ٤، ٥ ]
ثم قال :﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] أي : لايكرثه ولايثقله. وهذا النفي تضمن كمال قدرته، فإنه مع حفظه للسموات والأرض لايثقل ذلك عليه كمايثقل على من في قوته ضعف، وهذا كقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ﴾ [ ق : ٣٨ ]، فنزه نفسه عن مس اللغوب. قال أهل اللغة :/ اللغوب : الإعياء والتعب. وكذلك قوله :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ]، الإدراك عند السلف ـ والأكثرين ـ هو : الإحاطة. وقال طائفة : هو الرؤية، وهو ضعيف؛ لأن نفي الرؤية عنه لا مدح فيه، فإن العدم لا يرى، وكل وصفيشترك فيه الوجود والعدم لايستلزم أمرًا ثبوتيا، فلايكون فيه مدح؛ إذ هو عدم محض، بخلاف ما إذا قيل : لايحاط به، فإنهيدل على عظمة الرب جل جلاله، وإن العباد مع رؤيتهم له لايحيطون به رؤية، كما أنهم مع معرفته لايحيطون به علمًا، وكما أنهم مع مدحه والثناء عليه لايحيطون ثناء عليه، بل هو كما أثني على نفسه المقدسة؛ ولهذا قال أفضل الخلق وأعلمهم :( لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ). وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر.


الصفحة التالية
Icon