وهذا كما لو قدر أن الرجل تصدق بصدقات عظيمة، وجاهد جهادًا عظيمًا، يكون أفضل من قراءة القرآن مرات، وهو لم يصل ذلك اليوم الصلوات الخمس لم يقم ثواب هذه الأعمال مقام هذه، كما لو كان عند الرجل من الذهب والفضة والرقيق والحيوان والعقار أموال عظيمة، وليس عنده ما يتغدى به ويتعشى من الطعام، فإنه يكون جائعًا متألمًا فاسد الحال، ولايقوم مقام الطعام الذي يحتاج إليه تلك الأموال العظيمة؛ ولهذا قال الشيخ أبو مدين ـ رحمه اللّه : أشرف العلوم علم التوحيد، وأنفع العلم أحكام العبيد. فليس الأفضل الأشرف هو الذي ينفع في وقت، بل الأنفع في كل وقت مايحتاج إليه العبد في ذلك الوقت، وهو فعل ما أمر اللّه به وترك ما نهي اللّه عنه؛ ولهذا يقال : المفضول في مكانه وزمانه أفضل من الفاضل؛ إذ دل الشرع على أن الصلاة أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من الذكر، والذكر أفضل من /الدعاء، فهذا أمر مطلق.
وقد تحرم الصلاة في أوقات، فتكون القراءة أفضل منها في ذلك الوقت. والتسبيح في الركوع والسجود هو المأمور به، والقراءة منهي عنها، ونظائر هذا كثيرة. فهكذا يعلم الأمر في فضل ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ وغيرها، فقراءة الفاتحة في أول الصلاة أفضل من قراءتها، بل هو الواجب، والاجتزاء بها وحدها لايمكن، بل تبطل معه الصلاة؛ ولهذا وجب التقرب بالفرائض، قبل النوافل، والتقرب بالنوافل إنما يكون تقربًا إذا فعلت الفرائض لا كما ظنه بعض الاتحادية كصاحب [ الفتوحات المكية ] ونحوه، من أن قرب الفرائض تكون بعد قرب النوافل ! والنوافل تجعل الحق غطاءه، وتلك تجعل الحق عينه، فهذا بناء على أصله الفاسد من الاتحاد، كما بين.


الصفحة التالية
Icon