والمقصود هنا أن المسيح خلق من أصلين : من نفخ جبريل، ومن أمه مريم، وهذا النفخ ليس هو النفخ الذي يكون بعد مضي أربعة أشهر والجنين مضغة؛ فإن ذلك نفخ في بدن قد خلق، وجبريل حين نفخ لم يكن المسيح خلق بعد، ولا كانت مريم حملت، وإنما حملت به بعد النفخ بدليل قوله :﴿ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴾ [ مريم : ١٩ ]، ﴿ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ﴾ [ مريم : ٢٢ ]. فلما نفخ فيها جبريل حملت به؛ ولهذا قيل في المسيح :﴿ وَرُوحٌ مِّنْهُ ﴾ [ النساء : ١٧١ ]، باعتبار هذا النفخ. وقد بين اللّه ـ سبحانه ـ أن الرسول الذي هو روحه، وهو جبريل، هو الروح الذي خاطبها، وقال :﴿ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴾، فقوله ﴿ فَنَفَخْنَا فِيهَا ﴾ [ الأنبياء : ٩١ ] أو :﴿ فِيهِ مِن رُّوحِنَا ﴾ [ التحريم : ١٢ ]، أي : من هذا الروح الذي هو جبريل، وعيسى روح من هذا الروح، فهو روح من اللّه بهذا /الاعتبار، ومن لابتداء الغاية.
والمقصود هنا أنه قد يكون الشيء من أصلين بانقلاب المادة التي بينهما إذا التقيا؛ كان بينهما مادة فتنقلب؛ وذلك لقوة حك أحدهما بالآخر فلابد من نقص أجزائها، وهذا مثل تولد النار بين الزنادين إذا قدح الحجر بالحديد، أو الشجر بالشجر، كالمرخ والعفار، فإنه بقوة الحركة الحاصلة من قدح أحدهما بالآخر يستحيل بعض أجزائهما، ويسخن الهواء الذي بينهما فيصير نارًا، والزندان كلما قدح أحدهما بالآخر نقصت أجزاؤهما بقوة الحك، فهذه النار استحالت عن الهواء وتلك الأجزاء بسبب قدح أحد الزندين بالآخر.