ومن عرف النبوات منهم يظن أن شرائع الأنبياء من جنس نواميسهم، وأن المقصود بها مصلحة الدنيا بوضع قانون عدلي؛ ولهذا أوجب ابن سينا وأمثاله النبوة، وجعلوا النبوة لابد منها لأجل وضع هذا الناموس، ولما كانت الحكمة العملية عندهم هي الخلقية، والمنزلية، والمدنية، جعلوا ما جاءت به الرسل من العبادات والشرائع والأحكام هي من جنس الحكمة الخلقية، والمنزلية، والمدنية فإن القوم لا يعرفون الله، بل هم أبعد عن معرفته من كفار اليهود والنصارى بكثير. وأرسطو المعلم الأول من أجهل الناس برب العالمين إلى الغاية، لكن لهم معرفة جيدة بالأمور الطبيعية، وهذا بحر علمهم، وله تفرغوا، /وفيه ضيعوا زمانهم، وأما معرفة الله ـ تعالى ـ فحظهم منها مبخوس جدًا، وأما ملائكته وأنبياؤه وكتبه ورسله والمعاد، فلا يعرفون ذلك البتة، ولم يتكلموا فيه لا بنفي ولا إثبات، وإنما تكلم في ذلك متأخروهم الداخلون في الملل.
وأما قدماء اليونان، فكانوا مشركين من أعظم الناس شركًا وَسِحْرًا، يعبدون الكواكب والأصنام؛ ولهذا عظمت عناياتهم بعلم الهيئة والكواكب لأجل عبادتها، وكانوا يبنون لها الهياكل، وكان آخر ملوكهم بطليموس ـ صاحب [ المجسطي ] ـ ولما دخلت الروم في النصرانية، فجاء دين المسيح ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ أبطل ما كانوا عليه من الشرك.
ولهذا بَدَّل من بَدَّلَ دين المسيح، فوضع دينًا مركبًا من دين الموحدين ودين المشركين، فإن أولئك كانوا يعبدون الشمس والقمر والكواكب، ويصلون لها ويسجدون، فجاء قسطنطين ـ ملك النصارى ـ ومن اتبعه فابتدعوا الصلاة إلى المشرق، وجعلوا السجود إلى الشمس بدلًا عن السجود لها، وكان أولئك يعبدون الأصنام المجسدة التي لها ظل، فجاءت النصارى وصورت تماثيل القداديس في الكنائس، وجعلوا الصور المرقومة في الحيطان والسقوف بدل الصور المجسدة القائمة بأنفسها التي لها ظل.


الصفحة التالية
Icon